حادثة قتل الشاب الأمريكي من أصول أفريقيا عن طريق شرطي أمريكي أبيض "حيث جثم على عنقه في ولاية مينابوليس" قد أثارت سخط الامريكيون والأوربيون والكنديون بل كل بلاد العالم، وللأسبوع الثاني على التوالي تحتشد المظاهرات التي تحول بعضها إلى حالة من التخريب والسرقة والنهب، فكان في المقابل القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي وعمليات قبض واعتقال، قتل شخص أسود ليست المرة الاولى ولن تكون الاخيرة،فهذه سياسة عنصرية منذ تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، منذ وصول المُطهرون الانجليز الذين كانوا يطلقون على أنفسهم "البروتانيون المُطهرون" وذلك بعد الصراع الديني الذي ظهر بعد ظهور المذهب البروتستانتي فأستولوا على أمريكا بعد قهر أصحاب البلد الأصليين من السود، أضافة إلى استيراد ما طاب لهم من سود أفريقيا قهرًا وظلمًا وأستبدادًا،وعلى هذه الممارسات تأصلت وتوطنت العنصرية، ليس العرقية فقط ولكن الدينية أيضًا.
ولكن الغريب والمريب أن تأتي هذه الممارسات من قِبل دولة أدعت منذ نشأتها "على أصول العنصرية" أنها رائدة الديمقراطية وباعثة الحرية وحاضنة حقوق الإنسان،في الوقت الذي لم يسجل التاريخ فيه عنصرية أشنع من العنصرية الأمريكية، كما لا ننسى كم النضال ضد العنصرية والمطالبة بحقوق السود الذي لم نشاهده في مثل أمريكا، فمارتن لوثر كينج لم يكن أول ولا أخر مناضل يدافع عن حقوق السود.
ولكن ما هى قصة العنصرية الدينية هذه؟ بعد استيلاء المُطهرين البروتستانت على أمريكا وبعد تسيدهم لمجمل المشهد أصبح السيد الحقيقي والأمريكي الذي لا غش فيه هو الأمريكي الذي يرجع إلى أصول أنجلو ساكسون "وهو الإنجليزي الأبيض البروتستانتي"، ولذا لم نجد رئيسًا أمريكيًا غير أبيض الا أوباما وما لازال البعض ومنهم ترامب يشكك في جنسيته حتى الأن، بل لم يستطيع أوباما وهو رئيس لدورتين أن يساهم في أنحسار العنصرية المتجذرة في الضمير الجمعي الأبيض الأمريكي، ولم نجد رئيسًا غير بروتستانتي الا كيندي وقد أغُتيل قبل أنتهاء رئاسته، ولذا وجدنا ترامب عشية أنتخابه رئيسًا يقول "أتوقع دعم المسيحيين الانجليين،فأنا محافظ وجمهوري، وأنا أكثر من خدم المسيحية والمسيحيين" ولهذا لم يكن غريبًا عندما ترجل ترامب في عز المظاهرات التي حرقت كنيسة القديس يوحنا المقابلة للبيت الأبيض رافعًا الأنجيل، فما معنى هذا؟ هذا هو أمتداد وممارسة أمينة لسياسة أمريكية تعتمد في المقام الأول على تسخير الدين واللعب بالعواطف الدينية، وظهور هذه الممارسة بصورتها هذه بدأت منذ ريجان الذي أعلن ما يسمى بالولادة الثانية، وهذه المدرسة هى المؤسس لما يسمى بالصهيونية المسيحية التي تعتمد على تفسير خاطئ لبعض نصوص العهد القديم، فالصهيونية المسيحية هى بنت أصيلة للخلط المريب بين المسيحية وبين بعض النبوءات اليهودية التي انتهت وتحققت بميلاد السيد المسيح، وأهمها عقيدة "المجئ الثاني للسيد المسيح"، حيث أستغلت الصهيونية تلك النصوص والنبوءات ولخصتها في إعادة بناء هيكل سليمان،ففي اعتقادهم الخاطئ أن المسيح لن يأتي الا بعد أعادة بناء الهيكل مع العلم أن الهيكل أُعيد بناؤه أكثر من مرة،فهذه نبوءة قد تمت، كما ربطوا مجئ المسيح بأنه سيحكم العالم لألف عام ويكون العالم بعد ذلك مسيحيًا،حيث سيؤمن اليهود بالسيد المسيح الذي ينتظرونه "واللعب على العاطفة الدينية هنا واضح"، فمعني هذا الاختراق هو أن المسيحي يجب أن يؤمن بالمجئ الثاني الذي ذكر في الأنجيل ولكي يأتي المسيح لا بد من بناء الهيكل ولبناء الهيكل لا بد من هدم الأقصى كما يدعون، وهذا بالطبع يعني مساعدة أسرائيل الصهيونية على أن تقوم بهذا الفعل، وهذا المجئ الثاني هو ما أطلق عليه ريجان الولادة الثانية. فهل يريد المسيحي أن يولد ثانيةً وينتظر مجئ المسيح؟ بالطبع لا، والا أصبحت مع الصهيونية التي تساهم في هذا المجئ، فعقيدة المجئ الثاني لا يؤمن بها غير بعض الطوائف البروتستانتية وليس جميعها، ولا تؤمن بها الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية، فنحن نؤمن أن الهيكل قد تم بناؤه قبل ذلك، وان مجئ المسيح ليس عسكريًا سلطويًا ولكنه مجئ روحي وانه يحكمنا روحيًا بالفعل وسيظل هكذا حتى المنتهى، كما أن الألف عام فهي التي نعيشها "ألف عام عند الله كيوم ويوم كألف عام".
وعلى هذا الاختراق الصهيوني نجد الواقع الفلسطيني والإسرائيلي الآن خاصةً بعد قرارات ترامب بتحويل القدس عاصمة لأسرائيل ومرورًا بكل القرارات ضد الشرعية الدولية لصالح أسرائيل ومحاولات ضم الضفة الغربية وغور الاردن، فهذه قرارات دينية وليست سياسية، فالقضية ليست عنصرية جنسية أو عرقية فقط بل هى عنصرية دينية أيضًا.
هذا بالنسبة لأمريكا، وحتى لا ندعي المثالية بالنسبة لنا فالجميع مدان وعنصري بصورة أو بأخرى فمتى نفيق ونتوحد أنسانيًا، الآ نتعظ حتى بعد كورونا وما فرضته على كل أنحاء العالم؟!. حفظ الله البشر من الشر والشرير.