لا الموسيقى ولا الروايات ولا الشعر ولا السينما.. استطاعت أن تجعل أمريكا تتوب عن خطيئتها الكبرى «العنصرية».. هذا ما شعرنا به إزاء متابعة رياح التغيير التى تعصف بالولايات المتحدة الأمريكية جراء جريمة القتل الشنيعة بحق جورج فلويد. قبل أيام وقفت مذيعة شبكة CNN أمام ابن جورج فلويد ومحامى الأسرة، والابن في حاله صدمة وحزن رهيب معلقا بجملة واحدة «والدى لم يستحق أن يموت هكذا.. نريد العدالة».. صدمة ابن فلويد تمثل صدمة كبرى للكثير من الأمريكيين الذين اعتبروا أن لقطات موت فلويد تمثل موت الحلم الأمريكى الذى كافح الكثيرون لتحقيقه «مالكوم إكس»، و«روزا باركس»، «مارتن لوثر كينج» و«محمد على كلاي»، والشاعر لانجستون هيوز والروائية «تونى موريسون»، حتى ما أسموه إنجازا بوصول باراك أوباما البيت الأبيض، كان يطلق عليه «أول رئيس أمريكى من أصل أفريقي» فتحليل الخطاب الأمريكى دائما يفضى إلى ذلك التمييز العنصري.
يقول أوباما في كتابه «أحلام من أبي» وهو يروى فيه سيرته الذاتية إنه دائما كان يشعر بوجود عالمين عالم البيض وعالم السود، ويتحدث بألم عن تجارب مريرة عايشها في طفولته وشبابه بسبب التمييز العنصري.
العنصرية كانت سمة مرتبطة بالتجربة الأمريكية ونشأة الولايات المتحدة الأمريكية منذ أن وطأها المهاجرون الأوروبيون الفارون من التعصب والقمع، لكنهم مارسوا القمع وجرائم الإبادة العنصرية ضد الهنود الحمر منذ تأسيس أول مستوطنة عام ١٦٠٧ في ولاية فرجينيا. هكذا سطروا بدايات الولايات المتحدة الأمريكية منذ أن وطأ المهاجرون الأوائل جزيرة إيليس أيلاند وبلايموث روك.
ومنذ نهاية الحرب الأهلية وإجهاضِ العبودية عام ١٨٦٥، عاشت مناطق عديدة من الولايات المتحدة الأمريكية على وقع قوانين جيم كرو العنصرية، التى جعلت من ذوى البشرة السوداء مواطنين من الدرجة الثانية، وبعد أن أجهضت روزا باركس قوانين العنصرية في أمريكا ١٩٥٦ ظل البيض يشكلون حركات سرية تستهدف قتل السود أشهرها حركة «كو كلوكس» التى كتب عنها الشاعر الراحل لانجستون هيوز ما يعد مرثية لجورج فلويد:
أخذونى بعيدًا
إلى أحد الأماكن المقفرة.
قالوا: «هل تؤمن
بالعِرق الأبيض العظيم؟»
قلت، «سيدي،
سأخبرك الحقيقة،
سأومن بأى شيء
إذا ما أطلقت سراحي»
قال الرَّجل الأبيض: «يا فتى،
أيُعقل ذلك
أنت تقف هناك
وتخاطبنى بوقاحة؟
ضربونى على رأسي
ورمونى أرضًا.
ومن ثم ركلوني
على الأرض
عشرات بل مئات الأفلام أنتجتها هوليوود عن مآسى العنصرية، وآخرها كان «الكتاب الأخضر» و«بلاك كلانزمان» واعتبر أن فيلم «جانجو المتحرر من القيود» Django Unchained من أهم الأفلام التى أنتجت خلال العشر سنوات الأخيرة في تجسيد الجرائم المروعة في حق مجتمع الأفارقة الأمريكيين، والذى كتبه وأخرجه كوينتن تارانتينو ولعب بطولته ليونادرو دى كابريو وجيمى فوكس، وفيلم «ديترويت» الذى يجسد قصة حقيقة وقعت في ستينيات القرن الماضى إثر صدامات مع الشرطة أيضا.. لكننا نصدم بأن كل هذه الأفلام وما بثته من وعى بالقضية لم تغير شيئا!!
وبرغم كل مساوئ المجتمع الأمريكى، إلا أنه خلال متابعة الاحتجاجات والمسيرات سنجد الكثير من الظواهر التى تستحق التوقف عندها، والتى لن تنصف المجتمعات الأخرى؛ أولا: قوة رأس المال الاجتماعي بين الأمريكيين، فور مقتل فلويد أطلق هاشتاج ونظمت المسيرات بزى موحد وأطلق شعار «لا نستطيع التنفس»، والكل تبرع بما يمكنه قبعات وملابس تحمل صورة فلويد، مواجهة الشرطة كانت لها طرق مبتكرة استخدام «الباتيناج» أو الزلاجات والدراجات ومضارب التنس في صد قنابل الغاز وردها للشرطة. ثانيا: روح المخاطرة والتخلى عن التباعد الاجتماعي في زمن الوباء هو أمر يحسب لهذا الشعب الذى آثر الانتفاض لتحقيق العدالة على حساب الكثير من المخاطر الصحية في ظل أسوأ أزمة صحية واقتصادية تمر بها بلاد «العم سام». لكن ما الذى يجعل وفاة فلويد قضية كبرى تفتح جراح العنصرية في أمريكا؟
تختلف وفاة فلويد عن وفاة الشاب مايكل براون في التاسع من أغسطس عام ٢٠١٤، في أن مجتمع «الأفروأمريكان» يعانى بشدة من ضربات وباء كورونا الذى يتفشى بشكل أكبر بكثير في أحيائهم وراح ضحيته عدد كبير من المواطنين الأمريكيين من أصول أفريقية وهو ما ينوى نشطاء مجتمع السود الوقوف بقوة أمامه وفتح هذا الملف الحساس. ويتضامن مع السود الأقليات العرقية في أمريكا، خاصة مجتمع الأمريكيين من أصل لاتينى، والذين توجه إليهم ترامب بضربات موجعة من اعتقال وترحيل. يتوجه مجتمع السود الآن إلى المرشح المنافس لترمب السيناتور الديموقراطى جو بايدن معلقين عليه الآمال، وهو بدوره يلعب على ملف العنصرية لحملته الانتخابية وسوف تحمل الأيام المقبلة تيارات من رياح التغيير فهل تقف أمريكا صامدة؟!