الجمعة 15 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

"يا ليالي الفرح تعالي"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يا جريد النخل العالي طاطي وارمي السلام ..
واعمل إيدي مخده واسبل عيني وأنام ..
وإن عِشت يا بوابه لأعمل لك ديدابان.. 
على وقعِ هذهِ الأهازيجُ الرَّنانة بكلماتها البسيطة، المُتطايرة مِن أفواهِ فتياتٍ صِغار اجتمعن أمام عتبةِ أحدى الدُّور، وعلىَ وقعِ ضربات الطبلة الصاخب، يُعلَن الِإذن بانطلاقِ عُرس القرية الجديد، والذي سيُصِبح فيما بعد حديث الفلاحين، في الحقولِ مع الفؤوسِ، وفي البيوتِ أمامَ الأفرانِ، وعلى الجسورِ في نوادي الكلام المفتوحة، وفي الأسواقِ، حديثا لا يُملّ من سماعه، وفي نفسِ كلّ واحدٍ من أبناءِ الطينِ والتَّعب، أمنيات تمنى لو تتحقق.
بعدها تتنقل الفرحةُ مِن عتبةٍ لعتبة، فتَغرق الجدرانَ، وتسّكن صدورَ أصحابها.
قديمًا كانَ للفرحِ في قريتنا خصوصيته التي لا يزال أثرها باقيًا، حتى وإن خفّت مظاهرها وتغيّرت معالمها، وتبدّل الزمانُ غيرَ الزمانِ.
ظلّت أعراسنا مهرجانًا شاملًا مفتوحًا، يحتضنُ بين زواياه كلّ أطيافِ القرية فلا يستثني أحدا، تتقاطر من الأفواهِ ما تمورُ بهِ القلوب الصّافية من أماني وتهاني، أن يرزقَ الله العروسين راحةَ البال، وأن يَمنّ عليهما بالخَلفِ الصالح، تدعو كل أمٍّ وتُؤمِّن؛ أن يرزقَ الله ابنتها ابن الحلال الذي تجِد فيهِ العِوض، ومعه السّكن .
في هاتهِ الحَقبة، كانَ النّاس في تآلفهم كأبناءِ الرجلِ الواحد، فكما تبادلوا كسِرة الخُبز في حقولهم، وحِفنة الدقيق في دورهم، هَا هُم يتبادلون مشاعرهم الصّادقة، صافيةً صدورهم من كُلّ خسيسة.
في قريتنا كانَ الغريمُ لا يحِملُ لغريمهِ ما باتَ يحملهُ الآن من حقدٍ وغيلة، فلا يملكَ من أمرهِ بعد أن تمّ الأمر، إلا أن يستسلمَ طوعًا، فإنّ قِسمة الله غالبة، ونصيب القلوب كالسّيفِ يمضي فوقَ الرِّقَاب، فمحال أن تُفرِقَ القلوب التي جمعها الحُب إرادة.
كنتُ صغيرًا أمسك ذيلَ جِلباب أمي القروية البسيطة، أرافقها وهي تؤُدي واجبات التهنئة في أعراسِ قريتنا، فما سمعت عن أحدٍ خَطَبَ على خطبةِ أخيهِ، أو أنّ مزايدة دُبرت بليلٍ، اجبرت أهل العروس؛ أن ينكصوا على أعقابهم، ويخونوا الفاتحةَ، التي اجتمع عليها الرجال، وأمّنوا وشهدوا على شرعيتها، وأياديهم مُشرعةٌ تدعوا السّماء أن تَلعَنَ من يتهاون في حقها، اللهم إلا لأسبابٍ اجتمعَ الناس عليها، فيّ زمانٍ كانَ للكلمةِ مفعولَ السّيف المُسلط فوقَ الرِّقاب .
وهذا في الوقت ذاته، لا يعني أن النّاس كانوا في تعاملاتهم على السّواء ، غَيرَ أنهم اتفقوا على أنّ من شَذّ ، فتجرأ وخالفَ العُرف ، وانتهكَ حُرمة الميثاق، طُبِقَ عليه قانون الرِّيف السّائد _ ساعتئذٍ_ يكون مآل المستهتر، أن يسقطَ من أعينِ الناسِ، ويُصبِح مُهملا منبوذا، لا تُرفَع لهُ راية، ولا يُقام له وزن، نَكالًا له. 
في زماننا كان للعُرسِ مذاقهُ الأثير، يتحاكى بهِ، فلا يَملّ حديثه، ولا يبطل سحره، فطقوسه المتنوعة التي تسبقه بأيامٍ، ضمنت له أن يبقىَ خالدا في ذاكرةِ القرية وأهلها، شاهدا على لياليهِ الحِسان التي تزيّنت لها الدروب والشوارع، وضجّت بها البيوت، وتهلّلت معها الوجوه، وخفقت طربا لوقعِها قلوب المحبين، الذين تمنّوا أن لو تظل أيامهم أفراحا لا تنقضي .
اعرف بعض الأعراس التي أُقيمت في قريتنا، لا تزال حديثَ السُّمار، يتذاكر العجائزُ في جلساتهم تحتَ الجدرانِ، في نهاِر الشِّتاء البارد؛ انتظارًا للدفءِ المُتقاطِر من خيوطِ الشمس، تفاصيلها الكثيرة، والنشوة تُغِرقُ عيونهم الكليلة، والإشراق يعلو وجوههم الضامرة؛ فتكسّر البهجة تجاعيدها التي كونها الزمن .
اعودُ سريعا، فأسأل نفسي سؤالا حيّرني لسنواتٍ، وأنا أُقلِبُ في ذاكرةِ القريةِ المنسية، ما الذي َكتَبَ لهذهِ المظاهر الاجتماعية البقاء، ولماذا لم تعد لأفراحنا الحِظوة التي كانت ..؟! 
سؤالي اتركه للقارئ العزيز ، عسى أن يهتدي معي لإجابة.