بعد الجرعة الدرامية المميزة في رمضان 2020 آن الأوان أن ننتبه للثقافة السينمائية. قد يستهين البعض بالحديث عن أهمية عروض الأفلام لكن الحقيقة أن الوعى الجمعى تشكله الدراما والسينما، كما أنها ترسم الصورة الذهنية لدى المجتمعات وتستخدم في الحروب النفسية والحروب الباردة حيث يتم توظيفها في كثير من الأحيان لتشكيل الوعى السياسى.
في زمن الجائحة أغلقت دور السينما وأعلنت المهرجانات السينمائية توقفها لحين إشعار آخر بسبب الوباء وتوقف الطيران، أبرزهم مهرجان "كان" العريق، لكن ظهرت مبادرات عالمية لمدنا بجرعات سينمائية بديلة، أبرزها ما قامت به سينما "زاوية" في مصر من بث باقة رائعة من الأفلام القصيرة عبر الإنترنت لجمهورها، وتقدم للمبدعين الشباب دفعة لمواصلة طريقهم في عالم السينما. كما تقوم مؤسسة الشارقة للفنون بالإمارات، بمواصلة دورها دون توقف لتفعيل الحراك الفنى في العالم العربى وتحفيز الطاقات الإبداعية وإنتاج الفنون البصرية المغايرة والمأخوذة بهاجس البحث والتجريب والتفرد، حيث تبث مؤسسة الشارقة الآن أفلامًا قصيرة وروائية طويلة ووثائقية وتجريبية مميزة لفنانات من العالم العربى، تحت عنوان «باسم الحب: الهوية الذاتية في السينما النسائية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، والحقيقة أن اختيار الثيمة يستحق التحية إذ تعيد هذه الأفلام تفكيك الصور الذهنية للمرأة في عالمنا وتعيد صياغة قضاياها.
أكبر مهرجانات العالم توحدت وتعرض الآن في مبادرة "كلنا واحد: مهرجان الفيلم العالمى" باقة من الأفلام مجانًا لمدة 10 أيام بالتعاون مع "يوتيوب"، أفلام اختارتها مهرجانات برلين وكان والبندقية وصندانس وتورونتو وترايبيكا ومومباي وطوكيو وغيرها، وجدت فيها تنوعا في طرق السرد والرؤى والأفكار حول القضايا الإنسانية. هذه الفرص تعزز العدالة الثقافية وتخلق جمهورا كبيرا للمهرجانات السينمائية وبالتأكيد ستخلق نقاشات جادة حول صناعة الأفلام في زمن "ما بعد كورونا". فالسينما هى أسرع الفنون تطورا وتطوع أى تطور تكنولوجى في خدمة صناعة الفيلم.
أتمنى أن نرى مبادرات مصرية لبث أفلام المهرجانات السينمائية: مهرجان القاهرة والإسماعيلية والجونة والإسكندرية وأسوان والأقصر للجمهور المصرى والعربي عبر منصة موحدة على الإنترنت. هذه الأزمة التى وضعنا فيها الوباء ترسم رغما عنا مستقبل السينما الرقمية. فبعد عروض المنصات الرقمية التى باتت تعرض الأفلام الجديدة عبر تطبيقاتها، سنجد آليات مشاهدة الفيلم تتغير وسياق العروض تغير، وأصبح الفيلم يذهب للمشاهد في منزله.. يوقفه قليلا وقتما يشاء أو يعيد مشاهدة مشهد بعينه بعيدا عن تجربة المشاهدة الجماهيرية، لكن القائمين على المهرجانات العالمية أيقنوا أن أسوأ من الوباء موت الأمل وطغيان القلق والهلع، والحل دوما في الأفلام التى تؤثر على الوجدان وتمحنا جرعات من المتعة والدهشة وأحيانا الإبهار. وأجد في هذه العروض الرقمية فرصة ذهبية لرفع وتنمية التذوق السينمائى.
في القرن العشرين، كانت السينما مكونا ثقافيا أساسيا للوعى الجمعى بل وكانت من العادات الاجتماعية وجزءا لا يتجزأ من الحراك السياسى، فقدرة الفيلم على ضغط حقبة تاريخية تقدر بعشرات السنين في دقائق معدودة أمر يتفرد به عن سائر الوسائط الثقافية.
وخص الفلاسفة وعلماء الاجتماع صناعة السينما بالدراسة وقدموا مقاربات بينها وبين الرؤى الفلسفية ويعولون عليها دائما في إعادة بناء المجتمعات خاصة عقب الأحداث الكبرى والكوارث والحروب. فقد رأى والتر بنيامين، أحد علماء مدرسة فرانكفورت "المدرسة النقدية" في تنظرياتهم لصناعة الثقافة أن" العمل الفنى الحديث تحول إلى مسخ ذاتى واجتماعي، وتم تحويل هالته المقدسة إلى هالة مزيفة، مُضللة". وإذا كانت السينما قد اختطفت من وظيفتها الأساسية وانساقت وراء لعبة الاستهلاك واستغلال الجماهير فربما آن الأوان لعودتها لدورها التوعوى كصناعة ثقافية وليست تجارية.
صناعة السينما تواجه أكبر التحديات في زمن الوباء حيث توقفت الكثير من مشاريع الأفلام لكن نعول على صناع السينما في التكيف والتأقلم لبحث سبيل لعودتها. وهنا أستعين بمقولة الناقد الفرنسى أندريه بازان "السينما أيضا لغة" إنها لغة الأمل والإيهام المعسول الذى يعيننا على الحياة.