الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

القمر آخر الدنيا.. كيف يتشكل الوعي في رأس الإنسان؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في وسط المبدعين المصريين يوجد عُرف ربما يكون غريبا عند أوساط ثقافية أخرى من العالم؛ أنت روائي فلا بد أن تبقى هكذا حتى آخر نفس، أنت شاعر فلا يحق لك أن تشغل نفسك بصراعات السرد؛ أنت ناقد فيستحسن أن تبتعد عن ممارسة الفن لأن عملك سيتهم بإعمال العقل وقتل العنصر الوجداني وحشوه بـ"الفزلكة" الأكاديمية؛ فكرة وضع إطار للفنان يفرض عليه اختزال كل طاقته في مجال واحد فقط؛ لست أعلم المنبع الأساسي لهذه الأفكار؛ من أين جاءت وكيف انتشرت هكذا بشكل يشبه المسلمات؛ لكنها في الحقيقة ليست سوى وهم؛ سلفيا بلاث مثلا شاعرة جيدة وروائية جيدة أيضا؛ لو فتشت حول دون ديليلو الروائي العالمي الشهير ستجد لديه نصوصا مسرحية ومقالات نقدية مهمة؛ كذلك سيمون بوليفار ودان براون قائمة طويلة من المبدعين العالميين من أجيال مختلفة وصفوا مشاعرهم وثقافتهم في قوالب فنية مختلفة ظهرت للجمهور بشكل مدهش؛ لكن في رمضان 2020 هناك ناقدة سينمائية مصرية ذات ريبورتوار حافل في النقد قررت أن تقدم نفسها لأول مرة كسيناريست من خلال مسلسل "القمر آخر الدنيا" الذي نافس بقوة خلال المارثون الرمضاني هذا العام.
استطاعت الدكتورة ثناء هاشم أستاذة السيناريو بالمعهد العالي للسينما أن تضع اسمها ضمن قائمة صناع الدراما هذا العام بعد أن نسجت من رواية "طعم الحريق" للكاتب الكبير محمود الورداني إبداعا موازيا من خلال كتابتها لسيناريو وحوار "القمر آخر الدنيا"؛ الذي قدمت "هاشم" من خلاله أوبرا لمشاعر إنسانية جدلية معقدة تستعرض من خلالها مراحل تشكل الوعي في رأس الإنسان من خلال حادث بسيط قد يحدث في حياته يدفعه لاسترجاع كل ماضيه وإعادة معالجته من جديد من أجل تشكيل مستقبل مطمئن يدفعه للمضي قدما في رحلة الحياة.
تدور القصة حول ثلاثة أشقاء هم أحمد وجلال ودلال، يفاجئون بحدث يقلب حياتهم رأسا على عقب؛ ففي أول حلقة من حلقات المسلسل تخرج أمهم لتوزيع بعض الصدقات على المحتاجين والدراويش في السيدة نفسية؛ إذ يفاجئوا بعد ذلك بأن الأم خرجت واختفت؛ الأم كانت تعيش في بيتها مع ابنها جلال وزوجته مجدية بينما دلال تعيش مع زوجها خالد الذي يعمل بإحدى دول الخليج وأحمد يعمل مدرس تربية فنية في إحدى المدارس الخاصة ويعيش في منطقة نائية مع زوجته؛ يتجمع الأشقاء الثلاثة في رحلة بحث طويلة عن الأم تمتد من الحلقة الأولى حتى الأخيرة لتكتشف في النهاية أنها رحلة عذاب يبحث أبطالها عن الخلاص وليس عن شخص مفقود.
أول شيء قد يتبادر إلى ذهن المتلقي لماذا كل هذا التعب؟!؛ لماذا يلف الأشقاء مصر كلها بحثا عن الأم؛ يقلبون في الدفاتر القديمة؛ يذهبون إلى أقرباء لم يزوروهم منذ عهود وما كانوا ينتوون زيارتهم يوما ما؛ لماذا لم يكتفوا بتحرير محضر اختفاء في قسم بوليس وينتظروا النتائج التي سيسفر عنها عمل رجال الأمن؛ هنا مربط الفرس؛ حدث مثل هذا قد يبدو بسيطا لا يستحق كل هذه الحبكة بالنسبة لأشخاص غير أحمد ودلال وجلال لكن هذا يختلف باختلاف واقع الشخصيات نفسها بالتحديد مدى اضطرابها الوجداني ومدى ما تمتلكه من وعي تجاه العالم المحيط بكل ما يدور فيه من أحداث وبكل ما يؤثر فيه داخل أنفسهم؛ فالشخص المتبصر ربما لم يفعل ذلك ربما لم يته عن أمه في الأساس؛ بينما من تسرقهم السكاكين ينغمسون في حياتهم وهم يدوسون على مشاعرهم وإرادتهم في كل خطوة يخطونها وبذلك سيأتي اليوم الذي ينفجر فيه كل هذا الكبت ويبدأ الإنسان في مراجعة نفسه وإعادة تشكل وعيه بمجرد أن يحدث حدثا ما يغير من عناصر حياته الرتيبة كضياع أمه مثلا وهو ما حدث مع أبطال المسلسل؛ دلال مثلا غضت النظر عن مشاعرها تجاه ابن عمها سامي الذي كان يحبها وتزوجت من شخص لديه طموحات للعمل بالخليج وذهبت معه وضحت بسامي وضحت ببكاليريوس الهندسة ومضت في حياتها لم تفق إلى نفسها سوى أن علمت بوفاة الأم.
لعبت ثناء هاشم في نسجها لهذه الفلسفة على الحس الصوفي كمفردة من مفردات الفلكلور المصري ونجحت في تضفيرها مع مفردات العصر والواقع الذي تشكل عندها في مشاهد للحارة الشعبية بموسيقى المهرجانات والتكاتك وعمل الفتيات واحتياجهن للمال وما يلقونه من معاناة في العمل من معاكسات وشكوك أسرية وهكذا؛ أيضا سلطت الضوء الوضع الملتهب في ليبيا والعمال المصريين الذين خرجوا منها بأعجوبة جراء الأحداث التي تلت سقوط القذافي.
إن مثل هذه الأعمال التي تطرح إشكالية فلسفية وتعالجها تفتقر إليها الدراما المصرية بشدة رغم أهميتها وأهمية ما تحدثه في نفوس المتلقين لإنها تنجح في الإجابة عن تساؤلات دفينة داخلهم؛ "القمر آخر الدنيا" يحيي ذكرى أعمال درامية من هذا النوع زخرت بها الدرما المصرية كـ "حديث الصباح والمساء" و"خالتي صفية والدير" و"أواني الورد" على سبيل المثال.
والاعتقاد الأبرز لندرة هذه الأعمال هي ما تحتاجه من مجهود في الكتابة، بالتحديد، كيفية تحريك هذه المعاني الجدلية في إطار الواقع المعاش؛ أيضا فريق التمثيل المحترف الذي سيلعب أدوارا شديدة التعقيد وهو ما يحتاج ميزانية ضخمة بالطبع حتى يخرج العمل بالشكل المرجو؛ وأعتقد أن هذا العنصر الأخير لم يتحقق بالشكل الكافي في "القمر آخر الدنيا" شخصية جلال مثلا التي أداها الفنان عمرو عابد شخصية جدلية جدا ومعقدة للغاية؛ تعاني من اضطرابات حادة دفعتها لأن تتزوج من امرأة أمية لا تحبها لا توجد مشاعر بينهما ولا يوجد تناغم فكري؛ وفي رحلة البحث عن الأم يلتقي جلال بحب قديم فتنفجر ينابيع العشق بداخله؛ لكن عابد يظهر بـ"ريأكشانات" ثابتة في كل الأحوال "ريأكشانات" لا تعكس أي من هذه الجدليات من الحلقة الأولى وحتى الأخيرة؛ وبشرى التي أدت دور دلال وقعت في نفس الفخ أيضا؛ فالكتابة تشير إلى أن دلال في النهاية ستتصادق مع نفسها في حبها لسامي الذي يلعب دوره الفنان أحمد كرارة؛ لكن ملامح بشرى وضعت المشاهد في حيرة من أمرها؛ كذلك الفنان مؤمن نور الذي لعب دور أحمد الفنان التشكيلي الذي يعمل مدرسا ويعاني من صراع ما بين حياته الوظيفية وحياته كفنان رغم أنه عكس حالة ناقمة على حياته بشكل جيد إلا أنه لم يستطع التخلي عن هذه الحالة في مواضع أخرى لا تحتاجها؛ غير أن ثراء جبيل التي أدت دور مجدية زوجة جلال الأمية نجحت كثيرا في أن تعكس معظم جدليات هذه الشخصية على الشاشة؛ أما المخرج تامر حمزة فإن أبرز الأشياء التي تؤخذ عليه في هذا العمل هي حالة السمترية الزائدة عن الحد في مشاهد السفر من القاهرة للأقاليم بسيارة جلال؛ هنالك وقت كثير ضائع خالي من الحوار خالي من كل الأصوات إلا موتور السيارة وصوت الريح رغم نجاحه في اختيار "لوكيشانات تصوير" جيدة تناغمت كثيرا مع الحالة الصوفية التي يعكسها النص كالبيوت الريفية والخضرة مشاهد تتنفس أحيانا.
في النهاية؛ نجحت ثناء هاشم في كسر العرف المصري الذي يفرض عزلة على المبدعين ويجبر كل منهم على المضي قدما في المجال الذي تخصص فيه وفقط؛ وبرهنت على أن كل إنسان يستطيع أن يضع طاقته في القالب الذي يحب في أي وقت ومهما كان حجم ما حققه من نجاحات في الجانب الآخر كما نجحت في استغلال كل ما تمتلكه من مهارات ليست على مستوى تدريسها للسينما أو لعبها دور محوري في مهرجانات سينمائية مهمة فقط بل على مستوى احتكاكها بالأدباء أيضا وممارستها للنقد الأدبي فالتعامل مع أديب بحجم الورداني واختيار عمل كهذا من بين أعماله العديدة ليس أمرا سهلا؛ فالورداني لديه طبخة متفردة في الكتابة تمزج الرومانتيكية بالحداثة بالأدب الشعبي وتنتج في الآخر عملا يطرح رؤى جديدة للعالم ويحتاج لسيناريست يعيش لفترة مع أسلوبه ويصل لحالة التسامي مع تلك النصوص.