فى المقال السابق توقفنا عند الاجتماع الذى عقده الرئيس أنور السادات بالمعمورة مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وذلك فى أكتوبر ٧٢ والذى حضره اللواء حسنى مبارك قائد القوات الجوية الجديد، والذى تحدث فيه عن الإمكانيات الفنية والبشرية المتاحة لديه والتى تمكن مصر من دخول حرب شاملة فى منتصف العام القادم، وعقب هذا الاجتماع قرر الرئيس السادات ترقية اللواء مبارك إلى منصب نائب وزير الحربية إلى جانب منصبه كقائد لسلاح الجو، ولم يكن المنصب الجديد شرفيًا، بل كان عبئًا جديدًا على الرجل الذى تسرى فى عروقه دماء العسكرية، وقد أتاح له هذا المنصب حضور اجتماعات تنسيقية مع قادة القوات المسلحة السورية، وسافر مبارك إلى دمشق وإلى بغداد والتقى هناك بقادة الجيوش ووزراء الحربية، والتقى أيضًا الرئيس العراقى أحمد حسن البكر حيث كان بصحبة رئيس الأركان الفريق سعد الدين الشاذلى واتفقا مع الرئيس البكر على إرسال القوات الجوية العراقية لسربين من طائرات الهوكرهنتر، وذلك فى مارس ٧٣، لتنضم إلى الطائرات المصرية، ولا شك أن هذه اللقاءات أكسبت مبارك خبرة سياسية إلى جانب خبرته العسكرية الواسعة، وفى الإسكندرية كان مبارك حاضرًا لكل اجتماعات هيئة الأركان المشتركة بين الجيشين المصرى والسورى، ومرت الأيام وجاءت اللحظة الحاسمة.. لحظة أن نكون أو لا نكون، وفى صباح ذلك اليوم أراد مبارك وحسب خطة الخداع الاستراتيجى التى أعدتها القوات المسلحة وأشرف عليها بنفسه الرئيس السادات، قرر مبارك أن يبدأ اليوم كسائر الأيام العادية، فذهب إلى بيته واستيقظ فى السابعة صباحًا، وتأخر عن موعد السيارة التى تقله نصف ساعة متعمدًا، حيث كان يتحرك بها فى السابعة والنصف، أما فى ذلك اليوم المشهود فقد نزل من بيته فى مصر الجديدة واستقل سيارة قائد القوات الجوية فى الثامنة، وفى الطريق إلى مقر القيادة أمر السائق بالتوقف لشراء الصحف، ثم وصل إلى مكتبه، وبدا للجميع أنهم أمام يوم ترفيهى ورياضى، فقد طلب مبارك من اللواء محمد نبيه المسيرى رئيس أركان القوات الجوية أن تقام مباريات لكرة القدم فى سائر القواعد الجوية بين الجنود والضباط الاحتياط، وهو نفس ماكان يتم على الجبهة، وفى الثانية عشرة ظهرًا اجتمع مبارك باللواء المسيرى واللواء صلاح المناوى رئيس هيئة عمليات القوات الجوية واتفقوا على أن تخرج الطائرات من الملاجئ فى تمام الواحدة والثلث وأن تكون جاهزة للإقلاع ومزودة بالوقود، وكانت الطائرات قد تم تحميلها مساء يوم الجمعة ٥ أكتوبر بالقنابل والقاذفات بشكل سرى للغاية، وتم الاتفاق أن تكون الإشارة بطلقة خرطوش فلا مجال لاستخدام اللاسلكى بين أبراج المراقبة والطائرات بل هى طلقات الخرطوش والبيارق فقط، إذ لا أحد يضمن التقاط الموجات اللاسلكية وتنبيه إسرائيل لما سيحدث لها بعد نصف ساعة، فى حين أن الخطة تقوم على توجيه ضربة مفاجئة تربك العدو وتشل حركته تمامًا حتى تنجح عملية العبور، وهذا لن يحدث إلا بضربة جوية موجعة لجميع المطارات فى سيناء ومراكز القيادة وأماكن الرادارات ومركز الاتصال، وهذه العملية الخاصة بالقوات الجوية تم إطلاق اسم «صِدام» عليها، وفى تمام الثانية ظهرًا أقلعت الطائرات المصرية ليفاجئ الجنود على القناة بقرابة مائتى وعشرين طائرة تعبر القناة على ارتفاع منخفض، وذلك فى الثانية وخمس دقائق فهلل وكبر الجنود وعلت صيحاتهم بشكل جماعى لا إرادى «الله أكبر".. كان مبارك وقتها فى مركز القيادة وكان واثقًا من قوة أبنائه ونجاحهم فى تنفيذ المهام الموكولة إليهم، وكان التحدى كبيرًا، فالخبراء السوفييت أكدوا على فشل هذه الخطة إذا تم تنفيذها بهذا العدد القليل من الطائرات، وأكدوا أن الخسائر لن تقل عن ثمانين بالمائة من الطائرات إذ أنها تحلق فى السماء دون غطاء من الدفاع الجوى، وتتحرك فى عمق سيناء دون خوف من الصواريخ والمدافع المضادة للطائرات والتى تنتشر فى كل القواعد الإسرائيلية العسكرية الموجودة على أرض سيناء ولكن مبارك كان يراهن على المفاجأة وعلى قدرة الطيار المصرى على المراوغة والمواجهة والتى ترهب الخصم وتفقده توازنه، وكان تقدير الخبراء السوفييت أن الضربة الجوية تحتاج لثلاثة أضعاف الطائرات التى تمتلكها مصر، ولكن إرادة المقاتل المصرى هزمت كل التوقعات وخلال ثلث ساعة فقط عادت الطائرات المصرية بعدما أنجزت كل مهامها على أكمل وجه، ولم تفقد قواتنا إلا خمس طائرات فقط، لتفتح هذه الضربة الطريق لباقى عناصر القوات المسلحة فى إتمام عملية العبور وتحقيق النصر.. وللحديث بقية.
آراء حرة
«مبارك» فصل من التاريخ «12»
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق