مصر التاريخ والحضارة، مصر المكان والمكانة، مصر الدولة المركزية قبل أن يعرف العالم مفهوم الدولة، كل هذا وغيره ارتبط بنهر النيل، فلم يكن نهر النيل يمثل حياة مستقرة فى وسط لا يعرف غير الترحال وراء مياه الأمطار ولم يمثل نهر النيل تمايزًا جغرافيًا وسبيلًا اقتصاديًا ونظامًا سياسيًا فحسب، بل نهر النيل كان ولا يزال وسيظل مصدرًا أراده الله للمصريين أن يكون طريق حياة، حيث إن الله أراد أن يكون الماء طريقًا لكل كائن حى من إنسان وحيوان ونبات، ناهيك عن الارتباط التاريخى والجغرافى والمعنوى والسياحى للمصريين بهذا النهر الخالد الذى بحنوه دفع الفن وأوعز للمبدعين أن يبدعوا معلقاتهم الفنية بكل أساليب وطرق الفن لتخليد هذا الخالد، فارتباط مصر بالنيل لا يحده زمان فهى علاقة إلى آخر الأزمان. فى ظل هذا الواقع التاريخى والحياتى نعيش الآن مشكلة من أخطر المشكلات المصرية التى يعيشها الوطن وبدون مبالغة، فمصر دائمًا بموقعها من نهر النيل الذى أسس للاستقرار، هذا الاستقرار الذى أسس ودعم القيم الإنسانية لدى المصريين، فمصر والمصرى يدافع عن حقه فى نهر النيل دون أن يهدر حق الآخر.
مصر تحمى ولا تهدد وتصدق ولا تبدد وتشد من أزر الصديق، فبهذه القناعة القابعة فى الضمير الجمعى تسعى مصر دائما لأن تحقق السعادة والاستقرار ولكن ليس على حساب الآخر، فعندما ظهرت مشكلة سد النهضة، قالت مصر «نحن لا نمنع إثيوبيا فى حقها فى التنمية، ولكن لا يجب أن يكون هذا على حساب حياة الشعب المصري». فبعد ٢٥ يناير وما حدث من فوضى ظهر التعنت الإثيوبى ضد مصالح مصر التاريخية والقانونية فى مياه النيل، وهنا نريد أن نستعرض ما هو وراء الكواليس تاريخيًا، فبعد عزم مصر بناء السد العالى وافقت الحكومة الأمريكية على طلب إثيوبيا فى التعاون للقيام بدراسة شاملة لحوض النيل الأزرق وهو المصدر المائى الأهم لنهر النيل لبناء سد، فتم توقيع الاتفاق الرسمى بين أمريكا وإثيوبيا فى ٩/٨/ ١٩٥٧ واستمرت الدراسة لخمس سنوات، وذلك أثناء لجوء مصر للاتحاد السوفيتى لبناء السد العالى وفى أعقاب انهيار مبدأ أيزنهاور، ولم يكتف الدور الأمريكى بهذا ولكن قدم باحثون أمريكان تمويلا من المخابرات الأمريكية لبناء السد، ولكن توقف المشروع بعد رسالة عبدالناصر الحازمة بأن مصر تعتبر السد تهديدًا للحياة مما يستدعى تحركًا مصريًا غير مسبوق فتوقف السد ولكن لم تتوقف العلاقة الأمريكية الإثيوبية، وفى ١٩٩١ أصبحت إثيوبيا الحليف الاستراتيجى الأول لأمريكا فى مواجهة التطرف الإسلامى فى القرن الأفريقي، وبالطبع هذه العلاقة الأمريكية الإثيوبية لا تنفصل عن العلاقة بالصهيونية، فالاختراق الصهيونى لأفريقيا اعتمد على إثيوبيا منذ هيلاسلاسى وكان تصدير يهود الفلاشا لإسرائيل دليل التواصل التاريخى والعرقي، ناهيك عن وجود أنظمة دفاعية إسرائيلية حماية لسد النهضة، ولأن الحلقات تتواصل استكمالًا للمخطط وجدنا المعارضة القطرية تكشف الاستثمارات القطرية فى إثيوبيا والتى تصل إلى ٣ مليارات دولار، وقد هددت الدوحة بسحب هذه الاستثمارات فى حالة الاتفاق مع مصر!! إضافة إلى ذلك هناك استثمارات من عدة دول، وفى ضوء هذا الواقع وبناءً عليه لا يزال النظام المصرى يتعامل بسياسة طول النفس لأقصى حدود، فالقانون الدولى لا يهدر حق مصر والمادة ١٥ من إعلان المبادئ الذى تم فى ١٥ /٣/ ٢٠١٥ يقضى بضرورة الاتفاق على ملء السد بما يمنع أى حظر على دولة المصب من المياه أى تُمنع إثيوبيا من ملء السد دون موافقة مصر والسودان، ومع ذلك وصل التعنت إلى أن ترفض إثيوبيا التوقيع على اتفاقية تبنتها أمريكا والبنك الدولي، بل تعلن بملء الفم أنها ستحجز مياه الأمطار القادمة فى يوليو القادم. استنفدت مصر كل الطرق وآخرها تقديم طلب إلى مجلس الأمن لحفظ حق مصر القانوني، فهل ستتم مناقشته فى ضوء كورونا؟ وما هو البديل بعد كل هذا؟ وكيف الحفاظ على حق الحياة للمصريين؟ القضية خطيرة ولا يجب نسيانها، وإذا كان القرار للقيادة السياسية فدور كل مصر الوقوف بجد وصلابة وراء القرار الذى نتمنى أن يكون مدروسًا لصالح الوطن ولنقف صفًا واحدًا مُسقطين كل خلاف لأن مصر هى الأهم والأبقى. حفظ الله مصر وشعبها من كل شر.