بما أن الحظر ضيف ثقيل أمام كل المحاولات البائسة للموسيقى الناعمة والإضاءات الكسولة. وبما أن الوقت صعب المراس، لا سيما في المساءات الحارة، فلا شيء يناسب هذه المساءت الطويلة سوى الأغنيات سواء كانت من القصار المهزومات أو الطوال الحزينات، بطيئة الإيقاع، وفى سيل من التجارب بحثًا عن واحدة لتهدهد هذا الوحش الكامن في رأسي عثرت على رائعة خضراء.. خضراء من فلسطين.
وبما أن الكتب واللوحات العظيمة كما يقول ميخائيل شيشكين- أستطيع أن أضيف إليها الأغنيات والموسيقى- ليست أبدًا عن الحب. هى تتظاهر بأنها عن الحب، لكى تكون قراءتها- أو سماعها- أكثر إمتاعًا. ولكنها، في الواقع، عن الموت. الحب مجرد درع، أو هو على نحو أدق، مجرد عصابة على العيون، تحجب الرؤية كى تخفف من فظاعة المشهد.. وهل هناك مشهد أفظع من الإعدام.. من الموت.. من قبور الرجال؟
أيا يكن، كانت الأغنية التى عثرتُ عليها في تلك الليلة الطويلة تقول: «من سجن عكا/ طلعت جنازة/ محمد جمجوم/ وفؤاد حجازي/ جازى عليهم/ يا شعب جازي/ المندوب السامي».
رغم أن الأغنية مسكونة بالشجن بيد أنها محفوفة بالصلابة ومسيجة بالقوة في مواجهة العدوان والبطش والجور الذى مارسهم المحتل البريطانى ضد أهلنا في فلسطين عقب إعلان وعد بلفور المشئوم في العام ١٩١٧.
شكل هذا العدوان محورًا رئيسيًا في مكونات الإرث الثقافى بمعناه الشامل في أرضنا المحتلة، ليصير كل فعل ثقافى أو فنى سجلًا فاضحًا لجرائم الاحتلال وكذا مقاومة أهلنا له. وكانت تلك الأغنية علامة بارزة في التراث الفلسطيني، وكغيرها مما يحويه هذا التراث دائمًا وأبدًا تكمن وراءها قصة.
في أغسطس من العام ١٩٢٩، نظمت الوكالة اليهودية تجمعًا صهيونيًا أمام حائط البراق، للمطالبة بإعادة بناء هيكلهم المزعوم، الأمر الذى استهجنه الفلسطينيون وأعلنوا رفضهم التام لإهانة المقدسات وتدنيسها، واشتعلت جراء هذا السلوك الصهيونى المقيت ثورة شعبية، وهى الثورة التى تعرف بـ(ثورة البراق). أطلق شرارتها الأولى أحد فلاحى قرية المزار بقضاء جنين.. الفلاح الثورى هو فرحان السعدي.
لم يكن أمام المندوب البريطانى جون روبرت تشانسلر لإخماد الثورة سوى التهديد باستخدام القمع والسجن والمشانق ضد الثوار وكل من حرضهم.
على خلفية موجات الغضب التى عمت فلسطين اعتقل «السعدي» مع الكثيرين، وكان من بينهم فؤاد حسن حجازى من «صفد». ومن «الخليل» عطا أحمد الزير، ومحمد خليل جمجوم. وضع الثلاثة (حجازي، والزير، وجمجوم) في سجن القلعة بعكا، وفى محاكمة هزيلة وهزلية في الآن نفسه حُكم عليهم بالإعدام.
طالب بعض الأمراء والملوك العرب السلطات البريطانية بتخفيف الحُكم عن الأبطال الثلاثة، بيد أن السُلطات البريطانية في السابع عشر من يوليو لعام ١٩٣٠ نفذت حكم الإعدام.
اندلعت المظاهرات عقب تنفيذ الحكم، وجُللت الصُحف بالسواد، وجاءت عناوين صفحاتها الأولى «كفوا البكاء.. فإن الموت يحيينا». وظلت قبور الشهداء الثلاثة في عكا شاهدة على جرائم الصهيونية التى عانت منها الدول العربية طيلة قرن من الزمان.. وظلت وصيتهم التى تركوها قبيل إعدامهم تحذيرًا بليغًا لكن وبكل أسف لم يعه أحد: «ولنا في آخر حياتنا رجاء إلى ملوك وأمراء العرب والمسلمين في أنحاء المعمورة، ألا يثقوا في الأجانب. وباسم العرب نحيا، وباسم العرب نموت".
في أغسطس من العام ١٩٢٩، نظمت الوكالة اليهودية تجمعًا صهيونيًا أمام حائط البراق، للمطالبة بإعادة بناء هيكلهم المزعوم، الأمر الذى استهجنه الفلسطينيون وأعلنوا رفضهم التام لإهانة المقدسات وتدنيسها، واشتعلت جراء هذا السلوك الصهيونى المقيت ثورة شعبية، وهى الثورة التى تعرف بـ(ثورة البراق). أطلق شرارتها الأولى أحد فلاحى قرية المزار بقضاء جنين.. الفلاح الثورى هو فرحان السعدي.