"إن العلاقة بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين الإرهاب.. مثل العلاقة ما بين عيسى عليه السلام والحروب الصليبية".. لم أجد أروع من تلك المقولة التي دونتها الراهبة الكاثوليكية السابقة البريطانية الأيرلندية الأصل "كارين أرمسترونج" أحد أهم كتاب وخبراء مقارنة الأديان، وعضوة "الحلقة الدراسية عن عيسى"، لأبدأ بها رؤيتي حول الإرهاب والأديان.
والحقيقة إنني آمل أن تسمح لي تلك الراهبة أن أضيف إليها عبارة أخرى لتكتمل الحلقة الثلاثية، وهي "أنه لا علاقة أيضا بين موسى عليه السلام وبين المجازر الصهيونية التي تُرتكب كل يوم"، فكل تعاليم الأديان السماوية بل وغير السماوية أيضا إن جاز لنا التوسع في الأديان لا تجيز على الاطلاق عدم السماحة بين الإنسان وأخية الإنسان.
وخلال القرن الماضي ومطلع هذا القرن، وفي ظل انتشار الجماعات الإرهابية المسلحة المحسوبة على المسلمين، لم نعد نسمع من الآخرين سوى اتهامات بأن الدين الإسلامي دين عنف، ودين يحرض على القتل والذبح والحرق، فإذا ما ذُكرت كلمة إرهاب، يأتي في أذهان البعض منا صورة رجل عظيم اللحية، قصير الثوب، مقطب الجبين، وهو بلا شك عربي ومسلم تستغله سينما "هوليوود"، فقد ارتبط الإرهاب بشكل عام بهذا الدين، وأهله، وخرجت باقي الأديان والأمم من هذه التهمة.
المعروف إننا نحن معشر المسلمين، لم نصف الدين اليهودي في يوم من الأيام بالإرهاب، رغم الجرائم الصهيونية التي تُرتكب كل يوم في حق الشعب الفلسطيني، ولم نتهم الدين المسيحي بالإرهاب والتطرف، رغم الجرائم التي ارتكبوها بغزوهم للعراق وأفغانستان، علمًا بأن هذين الغزوين أشد أنواع الإرهاب ضررًا وتدميرًا، ولا يضاهيهما أي إرهاب آخر، فحصيلتهما مرعبة بكل المقاييس من حيث الخسائر البشرية والمادية الناجمة عنهما، وهي مثبتة بإحصاءات دولية دقيقة، وبعضها صادرة من منظمات أمريكية وأوروبية مسيحية وليست إسلامية.
السؤال هنا.. إذا افترضنا أن هناك إرهابًا إسلاميًا، آلا يوجد إرهابًا يهوديًا ومسيحيًا أيضًا؟
"لا يوجد تعاليم في الإسلام أكثر عنفا من المسيحية.. كما أن الإسلام ليس أكثر دموية من المسيحية.. فنظرة ثاقبة على التاريخ كافية لنعرف بأن كل الأديان كانت عنيفة، بما في ذلك المسيحية".
عبارة أخرى أكثر روعة للراهبة البريطانية "كارين أرمسترونج"، ولكنها أكثر عمقا في تحليل واقع العنف المرتبط بالأديان بشكل عام، لتعطي دليلًا آخر أن الإرهاب ليس له علاقة بأي ثقافة أو دين، بل وقالت في أحد حواراتها مع الصحفية الألمانية "كلاوديا مندة" أن العالم الإسلامي لا يمثّل معاداة للسامية، وأن اليهود قاموا باستيراد هذا المصطلح من المسيحية، حيث جاء المبشرون المسيحيون أولًا بهذه الفكرة، ومن ثم اقتبستها عنهم دولة إسرائيل بعد أن أصبحت اليهودية في العالم الحديث دينا عنيفًا، خاصة بعد أن طفت إلى السطح فكرة قومية الدولة اليهودية.
"إن العنف الهمجي الذي يمارسه تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" جاء نتيجة لسياسة الإزدراء الغربية".. كانت تلك رؤية "كارين آرمسترونج" أظهرتها في أحد مقالاتها الأسبوعية في صحيفة "الجارديان" البريطانية، ودللت على ذلك بالحادث الإرهابي الذي تعرضت له مجلة "شارل ايبدو" الفرنسية، وقالت أن دوافع الحادث سياسي ديني، وأن القصد منه إستهداف رمز مقدس للحضارة الغربية ممثلا في مبني تنويري يعبر عن حرية الرأي، لقد قال الإرهابيون في باريس: "أنتم تهاجمون رمزنا المقدس "النبي محمد"، إذًا نهاجم رمزكم المقدس وسوف تتعرفون عندها على الشعور بذلك.
الأكثر من ذلك أن "كارين أرمسترونج" التي اتهموها بمعاداة المسيحية بل ووصفوها بأنها راهبة المسلمين نفت في كتابها "محمد.. نبي لزماننا" جميع المزاعم التي يسوقها الغرب عن وجود رابط بين النصوص القرآنية وعمليات العنف والإرهاب التي تحدث في العالم، وقالت نصا: "إن هذه المقاطع القرآنية لم تثِر الإرهاب على مدى التاريخ.. وكان الإسلام حتى بداية الحداثة أكثر تسامحا بكثيرٍ من المسيحية الغربية.. وعندما احتل الصليبيون القدس سنة 1099، أصيب الشرق الأوسط بصدمة جراء مجازرهم التي ارتكبوها بحق سكّان المدينة المسلمين واليهود.. وأن ممارسة هذا العنف المنفلت من عقاله لم يكن معروفا هناك، ومع ذلك، استغرق الأمر 50 عاما إلى أن قاموا برد العدوان بشكل فعليٍ.
"نصوص دينية مفضلة للمتطرفين".. كانت تلك أكثر عبارة تحليلية قريبة من الواقع للراهبة البريطانية عندما واجهت مزاعم اللاهوت المسيحي بشأن استغلال المسلمين للقرأن الكريم في عملياتهم الإرهابية، فقالت لهم نصا: "لا تنسوا أن هناك عنفا في الكتاب المقدس العبري، وفي العهد الجديد، يفوق ما في القرآن من عنف.. أنتم تدعون عدم وجود فقرات في العهد الجديد تماثل ما يسمى آيات العار "طبقا لوصفها" وهي الآيات "191 – 193" في سورة البقرة، نسيتم سفر "رؤيا يوحنا" المفضل لدى المتطرفين المسيحيين، الذين يتوقعون معركة الدينونة الأخيرة، حيث يُباد أعداء الله، وهم يفهمون النص حرفيًا ويقتبسون منه أكثر مما يقتبسون من عظة الجبل، الهجوم على الأعداء، الذي تطالب به الآيات 191 وما بعدها في سورة البقرة، ينتهي بدعوة: "فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ"، هذا المخرج لأعداء الله غير موجودٍ في سِفر رؤيا يوحنا.
علينا أن ندرك أن التطرف بشكل عام ظاهرة عالمية تتمثل في التطرف الديني أو حتى السلوكي، هذا التطرف لا يكاد يخلو منه مجتمع من المجتمعات المعاصرة، وهناك أشكال كثيرة من التطرف، هناك السياسي والأخلاقي والفكري والديني، والأخير لا يقتصر على أتباع دين معين، أو حتى أنصار مذهب معين، ويدخل في معناه التنطع، والتصلب، والهوس العقدي، والعنف.
والتطّرف وفقا لعدد من القواميس اللغوية والمعاجم وعلى رأسها "القاموس المحيط، و"شرحه تاج العروس" و"لسان العرب" و"معجم مقاييس اللغة"، و"الصحاح " و"المصباح المنير" مادة "طرف"، هو تفعَّل -بتشديد العين- من طرف يطرف طَرفا بالتحريك، وهو الأخذ بأحد الطرفين والميل لهما، إما الطرف الأدنى أو الأقصى"، ومنه أطلقوه على الناحية وطائفة الشيء، ومفهوم التطرف في العرف الدارج اليوم معناه: "الغلو في عقيدة أو فكرة أو مذهب أو غيره يختص به دين أو جماعة أو حزب"، ولهذا فالتطرف يُوصف به طوائف من اليهود ومن النصارى، فثمة أحزاب يمينية متطرفة أو يسارية متطرفة، فقد وصفت بالتطرف الديني والحركي والسياسي.
في علم الاجتماع يشير معنى التطرف، إلى المغالاة السياسية، أو الدينية، أو المذهبية، أو الفكرية، ويعني الحدة الشديدة التي تتصف بها سلوكيات الفرد تجاه الموضوع أو الفكر الذي يعتنقه، ويعني أيضا:" المبالغة في التمسك فكرًا أو سلوكًا بجملة من الأفكار قد تكون دينية عقائدية أو سياسية أو اقتصادية أو أدبية أو فنية تشعر القائم بها بامتلاك الحقيقة المطلقة، كما يعرف التطرف بأنه: "الإغراق الشديد والمغالاة في فهم ظواهر النصوص الدينية على غير علم بمقاصدها وسوء فهمها".
علم المقاصد هذا هو الذي أدى بالجماعات المتطرفة سواء كانت يهودية أو مسيحية أو إسلامية تستغل بعض التأويلات الدينية في تبرير الطبيعة المتطرفة التي يميلون إليها، فقد أضحى الفهم الخاطئ للنصوص الدينية طريقًا للتشدد الديني، وصل في كثير من الأحيان إلى منهج من مناهج التطرف، أدى في نهاية الأمر إلى وصم أفراد المجتمع بالمرتدون أو الكافرون أو غير الملتزمون بأحكام الدين، وجب قتالهم، وهدم مؤسساتهم بكل طريقة ممكنة، حتى لو كان بسيف الدين، والدين منهم بريء.
الغريب أن مفهوم التطرف بدأ يسيء لبعض المفاهيم والمصطلحات الأخرى التي يمكن أن تختلف في التعريف والطبيعة التي فرض عليه الإرهاب، فالتدين على سبيل المثال هو في أصله ظاهرة إيجابية تعني التزام الفرد بالأحكام الدينية فهمًا وتطبيقًا وفق المنهج الصحيح والقيم الأخلاقية، ورغم ذلك يربطه البعض بالتطرف، رغم أن التطرف يشير إلى تجاوز التدين إلى سلوكيات وأفعال وأقوال مخالفة للتدين ذاته، ومنهي عنه بنصوص شرعية سواء من القرآن الكريم، أو من السنة النبوية، ويكفي أن المتطرف يقوم بتكفير المجتمع عمومًا خاصة من لا يوافقه في الرأي، ويقوم بتحريم الصلاة في مساجد عامة المسلمين إلا وراء من يعرفون عقيدتهم، ويدعو إلى العنف والخروج على المسلمين وقتل الأبرياء وإثارة الفتن والقلاقل، ويطعن في العلماء المشهورين عند العامة وينتقص منهم، وهي صفات ليست من التدين في شيء.
هناك أيضا التشدد، وإن كانت أحد صور الغلو والتطرف، أو السمة التي يمكن اكتشافها لمعرفة درجة الغلو أو التطرف لدى شخص ما، كما يشير مفهوم التشدد من المنظور الديني التشديد على النفس أن يكلفها من العبادة فوق طاقتها، وهو اخص من الغلو، لأنه يتعلق بالعبادة العملية، بخلاف الغلو، فإنه يتعلق بالعبادات والعقائد، كما أن المتشدد نفسه قد لا يتعدى ما حده الله كما في الغلو، إذًا معنى التشدد الديني هو ما يرتبط بممارسات الفرد في عباداته العملية، ويحرم نفسه من أمور أباحها الشرع، لكنه اتبع ما لم يتفق عليه بالإجماع فمارسه، لذلك يمكن فهم التشدد بأنه سلوك تعبدي يميل فيه المتشدد للأخذ بالأصعب أو الأحوط في ممارساته التعبدية، وهو بهذا لا يبيح لنفسه أخذ ما يتفق عليه بالإجماع، وكأنه بهذا المعنى يرى في ممارساته زيادة وزهدًا عن ما يمارسه غيره، إلا أنه في نظرته لمن يخالف لا يصل لما يصل إليه المغالي أو المتطرف.
أما الأصولية كمفهوم يختلف كليا عن التطرف، فالأصولية كمصطلح منسوب إلى الأصول، والأصول جمع أصل، وأصل الشيء أساسه، وتعني: "التمسك بالمبادئ التي لا يجوز التخلي عنها ورفض الوصاية العقائدية، أو الأخلاقية من مجتمعات، أو معتقدات أخرى"، وبالتالي فهو استخدام في غير محله عندما يعتبره البعض مرادفًا لمصطلح الغلو، أو يعبر عنه، فالغلو هو مجاوزة الحد، بينما الأصولية تعني التمسك بالمبادئ الشرعية وهو أمرًا محمود، بينما في حال الغلو فهو منهي عنه ومذموم شرعًا، وهو كمصطلح لم يظهر في اللغة العربية كرمز وعلم على جماعة معينة أو فرقة ذات مبادئ وأصول ومواقف متميزة إلا في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، وليس وليد البيئة العربية الإسلامية، ويرى بعض الباحثين أن وسائل الإعلام الغربي روجت له وربطته بالإسلام.
هناك أيضا الانحراف الفكري الذي شاع استعماله في السنوات الأخيرة، ويعني في اللغة الميل إلى الحرف أي الطرف، وهو العدول عن الشيء، فالانحراف هو الخروج عن جادة الصواب، والبعد عن الوسط المعتدل، وترك الاتزان، ويصيب الإنسان لاختلال في فكره وعقله، والخروج عن الوسطية والاعتدال في فهمه وتصوراته للأمور الدينية والسياسية وغير ذلك، كما أن البعض يتخذ من الدين ستارًا لنشر هذا الفكر وترويجه ليصطدم بالأنساق الاجتماعية والقواعد الدينية والتقاليد والأعراف والنظم الاجتماعية السائدة والملزمة لأفراد المجتمع، ومن الألفاظ التي لها صلة بالانحراف في المعنى، الجنوح والميل، الزيغ والضلال، الشذوذ، ومظاهرة تتقارب مع مظاهر التطرف والتشدد، بالقدرة على التضليل والخداع، وتشويه الحقائق، وتبرير الغايات، والتبسيط المخل، والميل إلى الخلاف والصراع، والتناقض الفكري والسلوكي، وأحادية العقلية، وأحادية الرؤية، والنزعة إلى العداء والانتقام، الرفض.