صحيح أن التنمية الاقتصادية جسر حيوى لعملية العبور الجديد إلى سيناء، لكنه ليس الوحيد والاعتماد عليه منفردا لا يحقق الهدف من تعمير أرض الفيروز.
توفير فرص العمل وبناء المصانع والمدارس والمستشفيات واستصلاح الأراضى وتيسير الخدمات والمرافق؛ ليس كل ما ينتظره أبناء بادية سيناء من الدولة المركزية.
العامل الثقافى له حضور كبير عند بدو مصر فهم يعتزون بثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم وفنونهم وتراثهم، ويعتدّون بالقبيلة وشيوخ الصحراء الذين عرف عنهم الكرم والفروسية والشهامة ونبل الأخلاق ونجدة الملهوف وإجارة المستجير.
وأكثر ما عاناه بدو مصر تهميش ثقافتهم من قبل ما يمكن تسميته بثقافة المركز أو بحسب تعبيرهم "ثقافة وادى النيل".
في نهاية العقد الماضى جُبتُ سيناء من بئر العبد وحتى الحسنة في الوسط ونويبع في الجنوب، وعرفت من أهلها أجاويد بالتعبير البدوى من قبائل البياضية والأخارسة والترابين والسواركة، وأدركت أن أحد أهم مشكلاتهم عدم تفهمنا نحن أبناء وادى النيل لقوانين الصحراء التى تحكم وتضبط سلوك وحياة البدوى.
تلك القوانين التى وضع نصوصها غير المكتوبة شيوخ القبائل وقضاتها، فأصبحت جزءًا من السلوك العام والعادات والتقاليد التى تمنع في جوهرها ميل البدوى إلى التطرف، بل ووضعت حدًا لامتداد سلسال الثأر والدم.
لا تتسع هذه السطور لسرد بعض تلك العادات والتقاليد، لكننى سمعت في سيناء شعرًا نبطيًا راقيًا، وسمعت مثله من شعراء بدو ممن سكنوا محافظات الوادى أو غرب القناة من الإسماعيلية والشرقية وحتى جنوب حلوان في عرب الشرفاء، حيث تسكن قبائل العميرات والعمارين التى لا تزال تحتفظ بنمط حياتها البدوى الذى قدمت به من جنوب سيناء.
يحتاج بدو سيناء خاصة وكل بدو مصر الشعور بأن ثقافة المركز تحتضن ثقافتهم وتعترف بها، فذلك سبيل آخر لكسب قلوبهم، وهو المنهج الذى رأيناه يتجسد في طريقة تعامل ضباط وجنود القوات المسلحة مع بدو سيناء.
وما جسده مسلسل الاختيار من أسلوب تعامل بطل الصاعقة المصرية أسد سيناء الشهيد أحمد المنسى مع بدو سيناء، جانب من تلك الصورة المضيئة التى لمست بعض جوانبها في حديث من قابلتهم من بدو سيناء، عندما كانوا يقارنون بين طريقة تعامل بعض أجهزة الدولة، وبين تعامل ضباط القوات المسلحة.
من أجمل ما ميز مسلسل "الاختيار"، وقبله فيلم "الممر" تجسيد اللهجة البدوية السيناوية بشكل صحيح تمامًا، وربما لأول مرة في الأعمال السينمائية والدرامية المصرية، فغالبًا ما كان تقدم اللهجة في الأعمال النادرة التى عرضت شخصيات بدوية أقرب إلى اللهجة الصعيدية.
وهذه مسألة مهمة جدًا في الاقتراب من عقل وقلب وأذن المشاهد المصرى البدوى؛ غير أن الأجمل ظهور شخصية البطل الشهيد فارس الصحراء سالم أبو لافى، والذى يعتبر بطلًا شعبيًا حقيقيًا بين كل أبناء بادية سيناء.
سالم أبو لافى كان تجسيدًا واقعيًا لأزمة تعامل الأنظمة السابقة مع بدو سيناء التى لخصها مؤلف مسلسل الاختيار على لسان البطل الشهيد المنسى عندما قال عن أبو لافى أنه "هو زعلان واحنا لازم نصلح الأخطاء السابقة حتى لو مش احنا اللى عملناها.. دى مسئوليتنا".
الشهيد أبو لافى الذى ظل هاربًا من أحكام غيابية انضم في نهاية الأمر إلى الجيش المصرى، وتعاون مع البطل أحمد المنسى في محاربة التكفيريين، وله من المآثر الكثير وعرف بالشجاعة والإقدام، وظنى أن سيرته تصلح مادة لعمل درامي ضخم تحتضن به الدولة المركزية الثقافة البدوية، تقدم من خلاله وطنية وشهامة أهل البادية في سيناء الحبيبة ولمحة عن عادات وتقاليد البدو السمحة على أن يقدم هذا العمل بلسان أهل البادية السيناوية، وإن جاز لى أن أقترح الممثل الذى يجسد هذه الشخصية فليكن الممثل الأردنى منذر الرياحنة، الذى قدم العديد من الأعمال البدوية، لأنه سيكون الأقرب لاستيعاب لسان بدو سيناء.
مثل هذا العمل يعبر بنا إلى جانب المصانع والمدارس والمشافى إلى قلوب أهالينا البدو، وسيكون له انتشار واسع يتجاوز حدود مصر بكثير.
أتمنى أن يكون سالم أبو لافى عنوان أول عمل درامى يجسد شهامة وفروسية أهل سيناء، وتتبعه أعمال أخرى لشيوخ وفرسان بذلوا الغالى والنفيس وفى القلب منهم الشيخ سالم الهرش شيخ قبيلة البياضية الذى فضح إسرائيل عام 1968 ورفض مؤامرة تدويل سيناء.