منذ فترة، قرأت مجموعة قصصية للدكتورة صفاء النجار، تحمل عنوان الدرويشة. فَغَرِقتُ في عالم متفرد ومفارق.. عالم يسحبك، من واقعك ويوقعك في أسر البياض والبهاء والرقة والاختلاف.. ويوضح لك كيف يكون العالم رحبا وأنت بين جدران بيتك.. وكيف يكون بيتك عالما يضج بمخلوقات، تخرج من عمق الذكريات وتشير إليك وهي تقول: هلم معي، هيا اركب لست وحيدا. وما أن ترتاد زورقها حتى يغسلك الموج، فتنتعش روحك، وتسلم على الشوارع، التي غبت عنها طويلا. وتزور الجدة التي أخذتك في حضن دفئها في سنوات طفولتك وكانت صديقتك التي هي مخزن السر وسر الحياة كأنها إيزيس التي تلملم أجزاء حياتنا التي قطعها غول الأيام نثرها هنا وهناك، ولم يترك لنا سوى الحنين الذي يثبت أن "التجارب التي تعلمنا الحكمة تثقلنا بالشك، وتبتلينا بعدم اليقين".
نبحر أعمق حتى تسمع همهمات الساهرين على المقاهي في الأمسيات، وثرثرة السيدات في الشرفات المتقابلة في الطوابق الأرضية وبيننا وبينهم غلاف شفاف أثيري كأنه الحلم.
نرى أنفسنا صغارا، نتعلم في المدرسة لكننا لا نرتدي المريلة الكاروهات. هذه المرة نتعلم كيفيه أن نتخفف من الحزن في وصفة سحرية مفادها أن نتخلص ممن لا نتذكرهم، وألا نملأ قلبنا بمن لم يؤثر فينا أو من انتهى تأثيره وندعهم يسقطون تلقائيا، ليرتاح القلب ويتسع لمن يحبوننا ونحبهم. نزيد في إبحارنا فنتعلم ما هو أكثر.. نتعلم الرضا بما هو كائن وأن المحنة الكبيرة التي تضربنا في الصميم في أعز الناس علينا ولا نستطيع إيقافها، تتحول بالرضا إلى صورة أخرى.. حياة أخرى شفيفة أشبه بقصة بيتربان فلا يرحلون عنا رغم رحيلهم الجسدي.لا يكبرون ولا يموتون. لأنهم دائمي الحركة والطيران.. يشرفون على حياتنا من علٍ ويشاركونا الفرح، ويتابعون الصغار حتى يكبروا.. وما علينا فقط لنتواصل معهم سوى أن نغمض أعيننا فنراهم بعين البصيرة نورانيين خضر المشاعر مبتسمين.
لقد حولت صفاء النجار محنة السرطان إلى قدر من العذوبة الموجعة حينما فقدت أختها إيمان رحمها الله ورحم كل أم تركت أطفالها بريش أخضر.. فعلمتنا كيف يصنع الرضا معجزة الشوف لا الرؤية فليست كل رؤية شوفا وليس كل شوف تسامى وليس كل تسامٍ عروج.. قرأتُ في الدرويشة عين الحقيقة وحقيقة عين الحياة وتضاؤل المحنة حين تصدق النوايا.
ولهذا قررت أن أشارككم.. أكتب عنها في العيد الذي لم نعش عيدا مثله من قبل وربما لن نعيش بعده ما نمر بهمن أجواء لن تتكرر. كتبت لنسعد ونقوى على ضيق جدارن البيوت وافتقادنا للشوارع والضجيج.. ونشاهد ونتعلم ما صنعته درويشة تسكن بين ثنايا الكتاب.. لنؤمن أن باستطاعتنا أن نغير نحن أيضا الأجواء التي فرضتها كورونا علينا ومنعتنا عن العالم.. فقط ببساطة أحضروا العالم إلى بيوتكم.. فزوارق الحنين لا وقود لها سوى الأمل ونورها هو الحب وبحرها هو الروح.. احتضنوا أطفالكم بحنان الجدات والعبوا معهم كأطفال.. ارسموا واسمعوا الأغاني وتحدثوا إلى بعضكم البعض وجددوا مشاعركم أعيدوا إليها البريق ونظفوها من الأتربة العالقة في بيتكم الذي لن يكون كما كان دائما بنفس جدرانه ونفس مساحته.. فقط جربوا وستعرفون كيف لبيت صغير أن يتمدد ويسع العالم.