وكأن الشعب المصري مثل سمكة لا ذاكرة لها، يتم اصطيادها كل مرة بنفس الطريقة، أو كأن هذا الشعب لا يختلف عن ذبابة تقوم بهشّها لتعود مرة أخرى.
في الخمسينيات من القرن الماضي، كان إخوان حسن البنا هم التنظيم السياسي الوحيد المسموح له بالعمل بعد حلّ كل أحزاب ما قبل الثورة، لكنهم كعادتهم لم يكتفوا بذلك، وأرسل المرشد العام للجماعة إلى جمال عبد الناصر مطالبه - أو إنذاره - بألا يصدر أي قرار عن مجلس قيادة الثورة إلا بعد موافقة مكتب الإرشاد، لينتهي الأمر بالصدام بين الثورة والجماعة.
وفي القرن الحالي - وبعد سقوط حكم الجماعة الإرهابية المحظورة - يفعلها مرة أخرى الحليف الرئيسي لإخوان حسن البنا، ويعلن حزب النور، ومن ورائه الدعوة السلفية، شروطهم على أي مرشح يفكر في حكم مصر، شروط أهل السلف الطيبين ملخصها أننا أمام امتحان يشبه كشف الهيئة الذي تقرره قواعد القبول في الكليات العسكرية.
تقسيم الأدوار لا ينتهي، والسلف الذين يلعبون دور الطيبين كشفوا عن وجههم القبيح الذي لا يختلف عن وجه الراعي الرسمي الأصلي للإرهاب، وفي إطار لعبة التقسيم تركوا مساحة لحزب النور السلفي ليعلن تأييده لخارطة الطريق المعلنة بعد ثورة يونيو، وأن يعلن تأييده للدستور الجديد الذي أقرته لجنة الخمسين بمشاركة ممثل حزب النور، لكنهم - رغم هذه الإعلانات الأمريكاني - منعوا كوادرهم من الاقتراب من لجان التصويت، ولم تضبط أيّة ذقن سوداء أو محنّاة في طوابير الاستفتاء، وذلك اتساقا مع دعوة إخوان البنا بالمقاطعة.
وليس غريبا أن يعلن قيادتهم - على لسان الشيخ ياسر برهامي، نائب رئيس الدعوة السلفية وعراب حزب النور - أن قول نعم لدستور يونيو كأكل المضطر لحم الميتة، ويضيف في موقع آخر: "إن حزب الدعوة السلفية وحزب النور تقبلا الانقلاب على حكم مرسي أسوة بالصحابة الذين تقبلوا حكم يزيد بن معاوية رغم قتله الحسين وعشرات من آل بيت الرسول، والتسامح مع الحجاج السفاح الذي قتل عشرات الآلاف في الكعبة وحولها".
ونأتي إلى ثالثة الأثافي، عندما يعلن الشيخ ياسر برهامي عن الشروط الستة لدعم أي مرشح رئاسي: الشرط الأول وهو الموقف من الاتجاهات الإسلامية، ويضم عدة نقاط منها موقف المرشح من الشيعة والصوفية والإخوان والاتجاهات السلفية المتعددة والجماعات التكفيرية وموقفه من الجمعيات المشهرة التابعة لهم، والشرط الثاني يتعلق بالموقف من القضايا المصيرية الحساسة والمقسمة إلى عدة ملفات، منها الموقف من دول الغرب وأمريكا وروسيا وإسرائيل، والموقف من الدول العربية - وخاصة دول الثورات العربية - والأزمة السورية وتصوره عن كيفية علاجها، وأيضا موقف المرشح من الأزمة الاقتصادية الطاحنة وكيفية علاجها، وهل سيعتمد على المساعدات أم على القروض، وما هو النظام الذي سيعمل به، هل سيتبع النظام المختلط أم الاشتراكي أم الاقتصاد الحرّ.
ويتضمن المحور موقف المرشح من الوضع الأمني، والذي يتضمن حقوق الإنسان ومخاطر عودة الدولة البوليسية ونظام مبارك، وتصوره عن ملف السجون والإصلاح القضائي وملف الإعلام، وهل سيتم توجيهه أم تحريره، وعما إذا كان سيتم فتح القنوات الدينية المغلقة.
الشرط الثالث يتصل بموضوع الفريق الرئاسي المعاون، وهل سيقتصر على أشخاص من اتجاه معين دون غيره، أم سيضم اتجاهات أخرى، أم سيكون فريق تكنوقراط ليس له سوى تنفيذ الأوامر فقط، الشرط الرابع تحت مسمى "محور الصفات الشخصية"، ويهتم بما إذا كان الرئيس يميل إلى الانفراد أم يطبق الشورى في اتخاذ القرارات، وقدرته على القيادة والنشأة والتدين الشخصي والأسرة، والشرط الخامس وهو الموقف من تفعيل الدستور، وخاصة فيما يتعلق بقضية مرجعية الشريعة وتداول السلطة ومنع الاستبداد وقضية الحقوق والحريات وعدم تسلط الأجهزة الأمنية أو تغول أيّة سلطة من السلطات في مصر ضد المؤسسات وحقوق المواطنين، وأخيراً يتذكر الشيخ ياسر برهامي شيئا ليس ضروريا فيضعه في آخر الشروط، ألا وهو "برنامج المرشح"!!.
هكذا يعيد التاريخ نفسه، في الخمسينيات من القرن الماضي طلب الإخوان حكم مصر من الباطن، وفي القرن الحالي يصر أهل السلف على ذات المطلب، ويضعون مطلبهم في شروط ملزمة لأي مرشح يفكر في حكم مصر.
الريس ياسر برهامي وجماعته يقدمون أنفسهم كما الناس الطيبين، بديلا عن الناس الوحشين من إخوان حسن البنا، الريس برهامي وأهله لا يهمهم برنامج المرشح الذي وضعوه في ذيل شروطهم الستة، ولكن الأهم بالنسبة لهم هو إلزام المرشح ببرنامج أهل السلف لحكم مصر.
المأساة أن الريس ياسر برهامي وأهله يظنون أن لديهم القدرة على فرض إرادتهم مرة أخرى، متناسين أنهم أيدوا الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، في الانتخابات الرئاسية السابقة، وحصل - بفضل هذا الدعم - على المركز الرابع، بفارق ملايين الأصوات عن الثلاثة الأوائل، وهو ما جعل المتحدث الرسمي لحزب أبو الفتوح يتهمهم بأنهم سبب خسارته.
يا عمّ برهامي، اتكلم على قدك وخليك في فتاويك، وآخرها أن تسمية اسم "ملك" للبنات حرام، وتذكر أن الشعب المصري ليس سمكة أو ذبابة، وإنما يحمل ذاكرة جمل.