كنت قد كتبت مقالًا منذ عدة أيام حول الآثار النفسية والاجتماعية لبرامج العنف واتخذت من برنامج "رامز مجنون رسمي" نموذجًا، وقررت أن أكتفى بذلك المقال حول هذا الموضوع، لكني قرأت بالأمس مقالًا للكاتب الصحفي الأستاذ بشير حسن انتهى فيه إلى أن الدنيا قد قامت ولم تقعد ضد ذلك البرنامج ووُجِّهَت له كثيرًا من الاتهامات بإهانة الضيوف وتعذيبهم ورُفِعَت ضده قضايا، وراح الأطباء والعلماء يحللون شخصية رامز وضيوفه، ثم انتهى إلى أننا لو سألنا هؤلاء الضيوف بعد انتهاء التصوير وتقاضى حفنة الدولارات التي ألقيت إليهم حول مدى موافقتهم على منع ما تم تصويره من العرض ورفع قضايا ضد مقدم البرنامج، فإن الإجابة ستكون "نحن موافقون على جنون رامز"، وعلى الفور قررت أن أكتب مرة ثانية في محاولة للإجابة عن عدة تساؤلات مهمة بهذا الخصوص، منها أننا إذا كنا نفترض من حيث المبدأ وجود حقوق إنسانية عامة، فمتى لا يتمتع بها بعض الناس؟ وهل المجانين والسفهاء يقعون ضمن من يتمتعون بكامل هذه الحقوق؟ وفى هذا الإطار هل يكون من حق المجتمع وقف مقدم ذلك البرنامج وأمثاله وضيوفهم حماية لهم ولنا وحفاظًا على أمن الوطن وسمعته؟
من الجدير بالذكر أن جميع الأديان السماوية والمواثيق الدولية قد اهتمت بالإنسان وحقوقه؛ فالإسلام بكتابه العزيز يتضمن دستورًا كاملًا يكفل للإنسان حقوقًا كثيرة، كما أعلنت الأمم المتحدة ميثاق حقوق الإنسان منذ عام 1948، وعلى ضوء "كلية الحقوق" تعتبر كل مطالب البقاء والنماء الإنساني حقوقًا إنسانية أساسية سواءًا المادية كالملبس والمأكل والمأوى والرعاية الصحية، أو الاجتماعية والثقافية كالاستمتاع بوقت الفراغ والتعليم والتدريب، أو النفسية كالإحساس بالأمان والشعور بالولاء والانتماء، أو المعنوية كحق التعبير والإبداع واتخاذ القرار. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كانت هذه الحقوق أساسية للإنسان وتوفيرها ضروريًا للمحافظة على إنسانيته وتنميتها، فهل يمكن تفسير إضرار الشخص بنفسه وبالأخرين على أنه يندرج ضمن هذه الحقوق؟
الواقع أن النظر إلى أي إنسان على أساس أنه يتمتع بالوضع الأخلاقي الذي تتضمنه الحقوق هو أن يعمل هذا الإنسان كعضو أخلاقي وأن يكون مسئولًا عما يفعله، وبما أن المجنون لا تتوافر لديه القدرة على أن يعمل كعضو أخلاقي فيصعب القول بأن له حق (أو حقوق كاملة)؛ حيث إن الشرط الضروري للحصول على أي حق أيا كان هو تمتع الفرد بقدر كافٍ في أن يكون حرًا من القهر والضغط، وهذا الشيء بالطبع يتوافر فقط للأفراد الناضجين القادرين على التمييز والاختيار، ويذكرنا ذلك بما ذهب إليه جون ستيوارت ميل في مقاله " في الحرية " من أن مبدأ الحرية إن كان مطلوبًا فهو يطبق فقط على البشر بعد نضوج قدراتهم وليس على المجانين أو أمثالهم.
وببساطة فإن الفرد إذا لم يكن لديه فهم واضح لما يعنيه أن يكون متمتعًا بحق الحرية، لن يستطيع أن يختار ويمارس بلغة الحقوق التي يفترض أنه يتمتع بها، أو بلغة الالتزامات التي تفرضها حقوق الآخرين، ومن المحتمل أن يكون السفهاء والمجانين لهذا السبب لا يتمتعون بحق الحرية في كل الميادين، وطالما أن بقية أعضاء المجتمع لديهم القدرة على عمل الاختيار فإنهم يستطيعون عمل الاختيار بدلًا عنهم. ولا يعنى إنكار امتلاك السفهاء والمجانين لحقوق الحرية، أنهم لا يتمتعون بأي نوع من الحقوق لأن مناقشة الحقوق غالبًا ما تعكس مجموعة من التباينات في المسميات، وبالتالي فقد يكون من المفيد إجمال تلك المسميات في نوعين من الحقوق الأول "حقوق الحرية" والآخر "حقوق التلقي".
ويقصد بـ"حقوق الحرية" تلك الحقوق التي تمنح لمن لديه القدرة على الاختيار والتمييز؛ حيث يسمح لحامل هذا الحق القيام بعمل ما بدون تدخل من الآخرين إذا كان ذلك هو اختياره، وكذلك لا يجبر من قبل الآخرين على عمل ما إذا اختار ألا يقوم به. ومن أمثلة ذلك ما جاء في الفقرتين الأولى والثانية من المادة 16 من إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان، حيث تضمنتا أنه: "من حق الرجال والنساء البالغين - بدون أي تحفظات تتعلق بالجنس أو القومية أو الدين - أن يتزوجوا ويوجدوا أسرة"، و"يكتمل الزواج ويسجل فقط بكامل إرادة وحرية الزوجين"، وأن "كل إنسان له الحق في أن يشارك في حكومة وطنه مباشرة أو من خلال ممثلين يتم اختيارهم بطريقة حرة".
وأما "حقوق التلقي" فيقصد بها تلك الحقوق التي يتمتع بها من ليست لديهم القدرة على الاختيار والتمييز، وعلى المجتمع أن يوفرها لهم، ومن هؤلاء الأطفال والسجناء والمجانين؛ حيث يتوجب أن يتلقى حامل هذا الحق معاملة معينة، وألا يكون عرضة لظروف معينة، وألا يترك لممارسة أفعال معينة. ومثال ذلك ما جاء في المادة 5 من إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان. حيث تشير إلى أنه " يجب ألا يتعرض أي إنسان للقسوة أو التعذيب أو المعاملة المهينة اللاإنسانية" تحت أي تهديد أو إغراء.
وفى ضوء ما تقدم يمكن القول بأن الكبار الذين، لبعض الأسباب، ينظر إليهم على أنهم لا يحملون "حقوق الحرية كاملة"، استنادًا إلى عدم كفاءتهم في الاختيار المبنى على المنطق والعقل، نؤكد أنهم يحملون "حقوق التلقي" وهذا يعنى أنهم يجب أن يتلقوا عناية مناسبة من المجتمع سواءًا رغبوا أو لم يرغبوا على أساس أن ذلك حق تلقى يشبه بدرجة كبيرة حقوق الأطفال والسجناء والمجانين، ومن ثم فحق العناية بالنسبة لرامز وضيوفه الذين أساءوا الاختيار ولم يحكموا المنطق والعقل فيما يفعلوه وقبلوا التعذيب والمهانة والإساءة إلى أنفسهم وإلينا وإلى سمعة أوطانهم يعد حق تلقى يستوجب التدخل السريع من قبل المجتمع لإجراء معالجة طبية ونفسية وتصويب لاختياراتهم رحمةً بهم وبنا سواء وافقوا أو لم يوافقوا.
*وزير التعليم التربية والتعليم والتعليم الفني السابق