في مساء الإثنين الموافق للثامن والعشرين من سبتمبر ١٩٧٠، كانت مصر على موعد مع أدق وأصعب لحظة مرت عليها بعد الثالث والعشرين من يوليو ٥٢، فقد توفى الرئيس جمال عبد الناصر في ظرف تاريخى بالغ الخطورة، وذلك بعدما تغيرت الأوضاع وتبدلت الأحوال عقب هزيمة الخامس من يونيو ٦٧، تلك الهزيمة التى أفقدتنا جزءًا عزيزًا من أرض الوطن هو سيناء الحبيبة، وأفقدت الأمة العربية والإسلامية القدس الشريف والجولان السورية، وأصبح شعار القيادة السياسية في مصر هو أن ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، ولذا فقد بدأت القوات المسلحة العمل في خطين متوازيين، الأول هو الإعداد والتدريب والتجهيز للمعركة القادمة والتى لا مفر منها، والثانى هو القيام بعمليات سريعة تكبد العدو خسائر فادحة، وذلك لرفع الروح المعنوية للمقاتل المصرى من ناحية وكرسالة لإسرائيل بأن مصر لن تستسلم للهزيمة أبدًا، وقد ذكرنا في المقال السابق الدور الكبير الذى قام به العقيد حسنى مبارك مدير الكلية الجوية، والذى ترقى لرتبة العميد بشكل استثنائى، وأصبح رئيسًا لأركان القوات الجوية ليشارك في حرب الاستنزاف برجاله من الطيارين المميزين الذين استطاعوا أن يكبدوا إسرائيل الكثير من الخسائر، حتى جاءت اللحظة وقبلت مصر مبادرة وزير الخارجية الأمريكى ويليام روجرز في أغسطس ٧٠، بوقف إطلاق النار بين الطرفين بشكل مؤقت والاستعداد للبدء في مفاوضات للتسوية السلمية، ولم يكد يمر الشهر على قبول مصر لهذه المبادرة حتى أتى القدر بوفاة الرئيس عبد الناصر، ووقتها رأى رجال الدولة ضرورة أن تنتقل السلطة بشكل سريع وطبيعى لنائب الرئيس، وذلك حفاظًا على سلامة الجبهة الداخلية وسلامة ووحدة الجبهة العسكرية، وتولى السادات الحكم في ظرف جد صعب، فخيوط السلطة ليست في يده وحده، بل وزعت على مجموعة من الرجال الأقوياء الذين كانوا يعرفون برجال عبد الناصر، وكان أولهم «على صبرى» باعتباره أمين عام التنظيم السياسى وقتها والقادر على الحشد الجماهيرى في أى وقت يشاء، لأنه يملك مفاتيح الاتصال بكل أفرع التنظيم في جميع مدن وقرى مصر، وثانى الرجال الأقوياء هو الفريق «محمد فوزى» باعتباره وزير الحربية، وثالثهم «شعراوى جمعة- وزير الداخلية» ورابعهم «سامى شرف» وزير شئون الرئاسة، والذى كانت لديه كافة المعلومات الخاصة بالدولة المصرية، وهو المسئول أيضًا عن الحرس الجمهورى، وأما آخر الرجال الأقوياء فهو «حسين الشافعى» باعتباره أكبر أعضاء مجلس قيادة الثورة من الباقين في دائرة السلطة، وهو أحد الذين يملكون شرعية يوليو التى كانت قائمة حتى وفاة عبد الناصر، وحين تولى السادات الحكم أسند رئاسة الوزراء إلى الدكتور محمود فوزى، وبدأت بوادر الأزمة بين السادات ورجال عبد الناصر الأقوياء تلوح في الأفق، والحقيقة أن بدايتها كانت عند حسنى مبارك، أو بالأصح عند القوات الجوية وهذا ما لا يعلمه الجميع، حيث كان الرئيس عبد الناصر قد أعطى السيد على صبرى رتبة فريق جوى، وكلفه بمتابعة إعداد سلاح الطيران وسلاح الدفاع الجوى، وكان همزة الوصل بين الخبراء السوفيت وبين العسكريين المصريين، وقد سافر إلى موسكو بغية العودة بطائرات القاذفات الثقيلة إلى طلبها قائد القوات الجوية آنذاك اللواء على البغدادى ورئيس أركانه العميد حسنى مبارك، وعاد صبرى من موسكو باتفاق غريب، وهو أن تبقى الطائرات هناك على أن تستعمل عندما تطلب القيادة المصرية ذلك حين تقوم المعركة، وقد أحدث ذلك ردة فعل غاضبة لدى كبار قادة القوات الجوية ومن بينهم حسنى مبارك، وما أن أعلم السادات بذلك حتى دعا إلى لقاء عاجل مع قائد القوات الجوية ورئيس أركانه، وخلال هذا اللقاء بدأت ملامح الإعجاب تظهر على وجه الرئيس السادات بالعميد حسنى مبارك، الذى كان واثقًا من نفسه عند الحديث، ممتلكًا لأدواته الفنية ومعلوماته العسكرية، واقتنع السادات بأن التغيير قادم لا محالة في ظل صراع القوى الذى راح يطفو على السطح بشكل ملحوظ، وجاءت اللحظة الفاصلة، ونجح السادات في التخلص من جميع الرجال الأقوياء بضربة واحدة قاضية سماها «ثورة التصحيح»، وذلك في الخامس عشر من مايو ١٩٧١، وغادر الفريق محمد فوزى منصبه كوزير للحربية لتنتقل مسئولية القوات المسلحة إلى الفريق محمد صادق، واختير اللواء سعد الدين الشاذلى رئيسا للأركان، ومرت مصر بحالة اللاسلم واللاحرب، تلك الحالة التى راحت تضغط على أعصاب الجميع، وبدأ الصدام بين السادات والمثقفين الذين يطالبونه بكسر هذه الحالة وإعلان الحرب، وأصدروا بيانا وقع عليه العديد من كبار الكتاب من بينهم توفيق الحكيم ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وأحمد بهاء الدين، واتخذ الفريق صادق موقفا مؤيدا للمثقفين فكان قرار السادات بتحمل الفريق أحمد إسماعيل رئيس المخابرات، مسئولية وزارة الحربية، وأصبح حسنى مبارك قائدا للقوات الجوية.. وللحديث بقية.
آراء حرة
«مبارك».. فصل من التاريخ «10»
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق