رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المجاهد المجتهد عبد المتعال الصعيدي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعتقد الكثيرون أن مصطلحات (الحرية، الإستبداد، العنف، الراديكالية والإرهاب.) لا يمكن الوقوف على دلالتها إلا في الحقل المعرفي الذي لفظها وأنتجها وإستخدمها.
وقد تجاهل بعضهم أن تلك المعاني المستنبطة من استخدام هذه المصطلحات ليست حكرًا على ميدان بعينه، فالحرية في ميدان الفكر أوسع وأشمل من حصر دلالتها في ميدان السياسة أو الاجتماع، كما أن الإستبداد والعنف والإرهاب إذا ما مارسته السلطات القائمة على المفكرين وأصحاب الأقلام والمجتهدين تكون قسوته لا تقل خطرًا على الإنسانية من إستبداد الحكام والساسة والملوك والسلاطين.
كما أن المنطق الإطاحي الراديكالي ليس دربًا من دروب الفاشية فحسب، بلا هو الحُمق بعينه ذلك الذي يعتقد أن للحقيقة وجهًا واحدًا وأن الصواب دومًا في ما يعتقد أدعياؤه وأن دونهم لا يحق لهم المناقشة أو النقد أو التحاور والجدل حول أمرٍ قد كرروه أو إنتهوا إليه.
ومن هذا الباب نجد الراجعين في شتى الحقول المعرفية يعتقدون بأن الموروث والتليد من الأفكار والعريق من الرؤى والتصورات لا ينبغي المساس بقداستها ــ المزعومة ــ بل يجب إحترامها وإقتفاء أثرها، لأنها تحوي فصل الخطاب وعين الحقيقة ومن ثم يصبح الخروج عليها مروقًا يستحق صاحبه الصفع بناصيته والتنكيل به وكسر قلمه.
وقد شاهدنا ذلك في العصر الوسيط وما فعلته الكنيسة بالفلاسفة والعلماء والمجددين والمجاهدين وقد مارسه عصبة من الفرق الإسلامية الجانحة عن الأصول الإسلامية والمقاصد الشرعية وسار في ركابهم ما نطلق عليه الجماعات السلفية ومعتنقي الوهابية والقطبية الإخوانية.
والغريب أن نجد الأزهريين من بدايات القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن العشرين قد ظهرت فيهم مجموعة رافضة وناقضة لأي شكل من أشكال النقد أو التجديد وسجنت الإجتهاد في ضرب التقليد.
فحاربت ـــــ تلك المجموعة الرجعية المستبدة ـــــ كل محاولات النهوض بالأزهر كمؤسسة تعليمية وقمعت المجتهدين في العلوم الإسلامية بداية من "الشيخ حسن العطار(1766م-1835م)" حتى "الشيخ عبد المتعال الصعيدي(1894م-1966م)" ــــ في هذا السياق ـــــ فأصابه العديد من أشكال العنف والإضطهاد بداية بالقدح والشتم والإتهام بالجهل إلى التهديد بالفصل وحرمانه من راتبه والوقوف دون ترقيته وصد الناس عنه والتشكيك في عقيدته.
فعلى الرغم من نبوغه وسعة علمه وكثرة تآليفه المبتكرة، ظل في دائرة النسيان حتى أخريات القرن العشرين، وجهل معظم المثقفين المعاصرين قدره ومكانته بين علماء الأزهر وهو الثائر المجدد والعالم المدقق الذي كان يعتز بعمامته الأزهرية ولم يحد قط عن نهج المصلحين المستنيرين. 
ولا نكاد نجد من بين مفكري النصف الأول من القرن العشرين – على اختلاف نوازعهم واتجاهاتهم- من هو أكثر عناية بتحديد المصطلحات وتوضيح المفاهيم وبسط الأفكار والرؤى والتصورات وترتيبها في نسق منطقي لا نكوص فيه ولا اضطراب، أفضل من "الشيخ عبد المتعال الصعيدي" ذلك الشيخ الأزهري العصامي، الذي نشأ خلوقًا، صبورًا، شغوفًا بطلب العلم، شجاعًا جريئًا، عاقلًا في التناظر والتثاقف، مجتهدًا مجددًا مبدعًا في مؤلفاته وتصانيفه، وتشهد بذلك كتابته التي تجاوزت الخمسين مؤلفًا في النحو والبلاغة والمنطق والفلسفة وعلم الفقه والكلام والحديث.
وأعتقد أن أهمية كتابات "عبد المتعال الصعيدي" ليست فيما قدمته من معارف مستنبطة عن قراءات متأنية في أدق المشارب العلمية بل إن أهميته الحقيقية ترجع إلى وجهته النقدية ونهجه الإصلاحي الذي اجتاز الكثير من المعوقات لتجديد العقل الجمعي، وتحرير الفكر الأصولي من جموده الذي حاق به لابتعاده عن ميدان العلوم العقلية والمعارف العلمية الحديثة.
ولا ريب في أن "عبد المتعال الصعيدي" يعد من أكبر تلاميذ الإمام "محمد عبده (1849م-1905م)"، ولاسيما في ميدان النقد والإصلاح وكيف لا؟، فقد صاحب "الشيخ الأحمدي الظواهري (1878م-1944م)" و"الشيخ مصطفى المراغي (1881م-1945م)" و"الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885م-1947م)" أثناء عمله بالأزهر فقد أخذ عنهم الكثير من مبادئ مدرسة الأستاذ الإمام.
أما وصف "الشيخ عبد المتعال الصعيدي" بأنه المجترئ المناضل والمجتهد الحكيم فيرجع إلى عدة أسباب، أولها: تعريفه الطريف لمصطلح "الأصولية الإسلامية" ذلك الذي جاء فيه أن الأصولية هي إحياء الأسس الجوهرية والمبادئ الشرعية، وقد أجمل الأصول في قسمين: اعتقادية وتشريعية، وتتمثل الأولي في أصلين هما التوحيد الذي يعني عبادة الله الواحد المنزه في صفاته عن التشبيه والتجسيد والغني بذاته عن أي سلطة كهنوتية لتقربه من عباده أو تكون سيفًا على رقابهم، فتحجر على حريتهم في الكفر أو الإيمان به.
والأصل الثاني هو التصديق بجميع الرسل والإيمان بوجود الملائكة والكتب المنزلة واليوم الآخر وغير هذا من أصول الإيمان وفروعه، ويكشف هذا الأصل عن عالمية الإسلام التي تنئ عن التعصب الملي والجنسي والعنصري.
أما الأصول التشريعية فتتمثل في ثلاثة أصول: أولها: جلب المصلحة ودفع المفسدة التي توازن بين صالح الفرد ومصلحة الجماعة من جهة وسائر البشر من جهة أخري.
وثانيها: مراعاة الزمان والمكان وهي القاعدة التي تثبت أن التشريع الإسلامي يحمل بين طياته بذور تطوره، وإمكانية موائمته للمتغيرات الحضارية لكل البشر وتتمثل هذه البذور في نسخ الآيات القرآنية والحديث الشريف والاجتهاد الذي لم يغلق بابه أبدًا منذ نشأته بداية من اجتهاد الصحابة إلى ما شاء الله.
وثالثها: التوسط بين الإفراط والتفريط، ويبدو في موازنة التشريع الإسلامي بين متطلبات الروح والجسد، والدنيا والآخرة. 
أما السبب الثاني في تسميته بـ المجترئ المناضل والمجتهد الحكيم، يرجع إلى أرائه المبتكرة في قضايا التراث، التجديد، الحرية، الوعي والإصلاح. تلك التي جاءت مغايرة إلى حدٍ كبير مع أقرانه من شبيبة الأزهر آن ذاك. 
أضف إلى ذلك اجتهاداته في العديد من المسائل الفقهية مثل حجاب المرأة وعملها والطلاق الرجعي والخلع وتولي المرأة القضاء واشتغالها بالسياسة والعمل بالشرطة والجيش وموقف الإسلام من الفن الغنائي والتصويري وتفرقته بين أمة الدعوة وأمة الاستجابة ومشروعية الأخذ عن الأغيار وتجديد فقه الحدود وتحديث العلوم الأصولية (الفقه، الكلام والحديث الشريف) ونقضه التصوف الفلسفي والتصوف البدعي، رده على المستشرقين ودعوته إلى تجديد المناهج التعليمية بالأزهر وغير ذلك. 
أما مكمن أصالته وعلو مكانته بين تلاميذ مدرسة الإمام "محمد عبده" فيبدو بوضوح في نجاحه في تطوير منهج الأستاذ الإمام في التجديد والإصلاح والرد على المستشرقين.
وللحديث بقية.