تميزت مصر منذ فجر التاريخ بالعمارة، إذا خلفت العمارة المصرية القديمة العديد من الآثار التى تدل على حرفية وإتقان الفنان المصرى عبر العصور، وقدرته الفائقة على تشييد القصور.
وقد كشفت الحفريات في مدينة تل العمرانة، والأقصر عن عدد كبير من القصور، واستمر الوضع عبر العصور والحضارات المتعاقبة على مصر فمرورًا بالعصر البيزنطى، والقبطى، والإسلامى، وحتى الدولة العلوية، فبدأت القصور في مصر تأخذ العديد من الطرز المعمارية، وفى هذه السلسلة من الحلقات والتى تستمر على مدى شهر رمضان الكريم سنتعرف على أهم القصور في مصر المحروسة.
شهد توقيع «معاهدة الزعفران» عام 1936.. وتفاوض النحاس مع المندوب البريطانى على إلغاء الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة
شيده الخديو إسماعيل على نفس الطراز المعمارى لقصر فرساى بفرنسا، والذى أقام به خلال فترة تعليمه هناك، وقام بإهدائه للملكة «خوشيار هانم» الوالدة باشا، في عام ١٨٧٢، وذلك بعد أن تدهورت حالتها الصحية، فأتى بها في هذا المكان البكر ذى الهواء النقى، حيث تمتد حديقته على مساحة مائة فدان من الأرض، تمت زراعتها بنبات الزعفران حتى يقوم ببعث الرائحة الذكية لـ «الوالدة باشا».
شهد القصر الذى بُنى على أنقاض قصر «الحصوة» بحى العباسية، على مساحة ٢٠ فدانًا، ويحيط به سور كبير، والذى كان يتألف من خمس بنايات، وتعود تسميته بـ «الحصوة» نظرًا لامتلاء الحى الصحراوى بالحصى في ذاك الوقت، وقام الخديو إسماعيل بالعهد ببنائه إلى المهندس مغربى بك سعد وكيل وزارة الأوقاف، بتصميم «قصر الزعفران»، والإشراف على بنائه، وأمر بأن يكون القصر على غرار قصر فرساى بفرنسا، كما طلب بنقش الأحرف الأولى من اسمه وتاجه الخاص على بوابة القصر الحديدية ومداخل القاعات والغرف، وبنى القصر وسط حديقة كبيرة.
ويعتبر القصر شاهدًا على العديد من الأحداث الدرامية والسياسية، ويُعد صالون القاعة الرئيسية أهم جزء في القصر، إذ تم توقيع فيها «معاهدة الزعفران» في عام ١٩٣٦، ولا تزال المنضدة التى تم توقيع الاتفاقية عليها قائمة في مكانها حتى الآن، وفى ردهات القصر تفاوض فيه زعيم الأمة مصطفى النحاس مع المندوب البريطانى «مايلز لامبسون» لورد كليرن، والخاصة بإلغاء الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة، كما شهد أيضًا حادثًا مأساويًا هو طرد الخديو توفيق لخوشيار هانم «الوالده باشا» من القصر كى يصبح محلًا لإقامة الضباط الإنجليز.
أما القصر من الداخل فقد زين بالنقوش الذهبية والرخام النفيس والبلور الجميل، وعندما تجتاز الباب يقابلك بهو كبير طوله عشرون مترًا وعرضه عشرة أمتار، وفى وسطه نجفتان كبيرتان، وكل نجفة بها مئتا مصباح كهربائى على شكل شمعة، وحول البهو ثمانى حجرات أنيقة أثثت بالرياش والأثاث الفخم، وفى نهاية البهو تجد مصعدا دائرى الشكل يبتدئ بعدة درجات واسعة مقوسة، وتنتهى إلى فرعين متقابلين ينتهيان بممر متسع على هيئة نصف دائرة، ثم يفترق هذان الفرعان افتراقًا عكسيًّا، حيث شكل المصعد الذهبى على شكل وردة، وينتهى إلى الطابق العلوى، كما يوجد فيه بهو وثمانى غرف كالطابق السفلى، وقد أثثت بالأثاث الفاخر، والنقوش والتماثيل البديعة. وفى عام ١٩٨٥، تم تسجيل قصر الزعفران ضمن الآثار الإسلامية، وأصبح الآن مقرًا لجامعة عين شمس، وبدأت فيه أعمال الترميمات وتولى أعمال الترميم في بداية التسعينيات الدكتور فاروق الجوهرى، ليستعيد القصر رونقه في كل ركن منه، فالبهو الكبير ذو السلم الثنائى الضخم لا يوجد مثيل له في مصر، إذ إنه مصنوع من النحاس ومغطى بطبقة مذهبة، كما أن الأسقف حملت رسم السماوات والتى يقال إنها صممت في غرفة النوم، لأن الخديو كان يحب النظر إلى السماء وهو مستلق على ظهره قبل النوم.