لم يكف منظرو الفلسفة والاجتماع متأملين فى مقاربة «الإنسان» وتقابله مع من قاسمه العيش المشترك ومن محيطه الأقرب، فوفق معطيات وتعليلات، تبريرية مُقرنة، جرى وصف أنه حيوان ناطق/مكانى/اجتماعى/سياسى (أرسطو)، حيوان رامز (كاسيرار)، وحيوان مدنى بالطبع (ابن خلدون)، حيوان أيديولوجى (ألتوسير)، حيوان ميتافيزيقى (شوبنهاور)، فهل يجوز لنا أن نضيف حيوان رحلى، كون الخصيصة البشرية فى التنقل من مكان إلى آخر كانت عنوانه وديدن عيشه الحياة، توازى الإنسان مع الحيوان مرتحلا بحثا عن ما يسد رمقه كلأ ومرعى، فهل كان الإنسان حيوانا مرتحلا قبل أن يصير الناطق، الاجتماعى، الرامز، المدنى، الأيديولوجى وغير ذلك، وهل لنا نفى أنه فى ترحاله القريب والبعيد شكل خبراته، وتكشف معارفه، ووجهها كلما أشبع حواسه بما حوله من الطبيعة، وتواصل مع صنوه الإنسان تارة صديقا، وتارة عدوا يصارعه على المرعى، والأنثى!.
التدوين، فصل ذلك «الترحال» العام، عن الترحال الخاص، العام مبتدأ فعل البشرية، الخاص الذى هو قرار بمحض الارادة للمرتحل / الرحالة،فى أحالة لما سيسمى تصنيفا أدب رحلات، وهو أيضا سيشهد تصنيفا أو تمييزا نوعيا كأن نشير بتوصيف السندباد للرحالة (الأسطورى) شاهد الأعاجيب والخوارق، الطالع من سيرة ألف ليلة وليلة، كما من فم المارد والحوت الأزرق، فيما يصير توصيف ابن بطوطة (المغربى) لرأى العين، والانطباعات ذات الموثوقية،حتى وإن أخطأت تأويل مشاهداتها، ابن بطوطة من سيكتب أن زوجته الهندية رفضت الرحلة معه فطلقها بعد عشرة ثمانى سنوات فى بلدها، لكنه يحيطها ويحيطنا بزوجات مرتحلات لا يفارقن أزواجهن عند السفر.
عُنى التراث العربى والعالمى بأدبيات الرحلة والرحالة، وهيمنت مدونات الرحال الرجل وغابت الرّحالة، فيما جرى تعليله بأن الأنثى/المرأة كائن ينحو إلى الاستقرار، وهى الأصل فى ذلك مع مبتدأ مجتمعات رعوية وزراعية، هو يرحل، وهى تستقر، ووسمت بالأرض، والوطن، والبذرة والحاضنة، وأنها الأصل فى خلق ودوام الحياة بالمكان،غير أن مايلفت الأنتباه، ويطرح السؤال، لما أشيع أن المرتحل ذكر منفرد دوما؟ ألم ترافقه امرأته؟ على ذلك هى قسيمة فى رحله أينما حل، الانتقال من مكان لآخر ظاهرة حياتية ظلت عنوانا لمجتمع البداوة، فهل انحازت هى للشفاهى فكانت الساردة (الراوية)،وصار هو المدون، فحفظت لنا ذلك المخطوطات والرقن،وذرت الرياح ماباحت به شفاههن، أليست شهرزاد الحكاية مرتحلة ببقاع بغداد، والهند،ومصر،وتجيد وصف أناسها كما ميزاتها عمرانا وثراء وأعاجيب للناظر، هو أذا فى جانب منه صراع الشفاهى (الأنوثة)، مع الكتابى (الذكورة)، إلى أن يحط على الورق كضمان ومصداقية لأى إرث يتوارث، المرتحل الذى يدخل إضبارة التاريخ وذاكرته، من يدون ويُعلم الآخرين، من ارتحل وسكن لن يُعترف برحله، النساء ضمن هذه المعايرة والقياس.
ولعل الباحث فى مدونة الرحلات لن يعدم بالقطع وجود المرأة فى مدونات الرحالة خاصة ما تعلق بأدائها شعائر الحج كسيرة رحلة السيدة عائشة ورفيقاتها، أو رحل المهمة والدور السياسى كالحاكمة قوت القلوب، وهى تغادر مصر إلى بغداد.