الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

شالوم وعبده

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بما أنه لا شيء يحدث، ولا أحد يجئ، وبما أن الليالى زامتة، كئيبة، وبلا رحمة، وبما أن كل شيء بات مبتذلًا وبائخًا فليس أمام الوحيدين سوى المكوث أمام هذه الشاشة الصغيرة الزرقاء التى تمنح الدفء والمؤانسة، وتفتح النوافذ على عالمٍ خالٍ من الكراهية والادعاء وفنون التلون البغيضة وأساليب الاستسهال التى لا يجيدها إلا البهلوانات.
هذه الشاشة التى كانت يومًا ما أكبر وأعظم مما هى عليه الآن ورغم صمتها عن الكلام عند ولادتها إلا أنها علمت الناس الحب والحكمة والتحليق في فضاءات أكثر رحابة من كل المحيطات الضيقة والخانقة.. ويوم نطقت هذه النبية جُن جنون الجميع ووقعوا في غرامها واعتبروا كل من يسبح على سطحها ليسوا إلا ملائكة التقطتهم كاميرات يحملها أناس مهرة، تفيض قلوبهم بالفن والحب والسلام.
كان توجو مزراحى أحد هؤلاء المهرة النابهين الذين أخرجوا السينما عن صمتها في ثلاثينيات القرن الماضي.. كان كاتبًا ومخرجًا رائعًا وكشافًا للموهوبين الذين شهدوا على يديه ميلادًا جديدًا وسار بهم في طريق الخلود.
«شالوم» كان من هؤلاء المولودين على يد مزراحى هذا اليهودى الطيب، وكانت محض مصادفة أن كان «شالوم» ابن الإسكندرية يهوديًا أيضًا فشكلا معًا ثنائيًا رائعًا راقا للناس وأعجبوا بعملهما الأول «الكوكايين» الذى عرض في الإسكندرية ثم القاهرة ليُشهدا الخلق على فنهما.
لم يكن «شالوم» مغرورًا حين قرر أن تحمل أفلامه اسمه، إنما كان سباقًا حيث كانت هذه هى المرة الأولى التى يحمل فيها فيلمًا اسم بطله ولم تكن الأخيرة فقد سار على دربه آخرون أفلام إسماعيل ياسين شاهدة على نجاح تجربة «شالوم» وإلا فلماذا قلده وجعل اسمه عنوانًا لأفلامه؟
لم يكن هدف هذا اليهودى البائس أن ينال لقب أول ممثل كوميدى عرفته السينما المصرية فحسب ولكن أراد التأكيد على كل المعانى النبيلة الواجب توافرها في الإنسان المحب لغيره ولوطنه وهو ما استطاعه بالفعل.. فها هو ينبذ في فيلمه الأول «الكوكايين» الخيانة التى بشر أهلها بالمصير الأسود وأن الكافرين بقيم الصداقة والذين يعضون اليد التى امتدت لهم بالخير يومًا ما سينالهم نصيب من كفرهم هذا.
يعود النجم الصاعد بعد نجاح «الكوكايين» ليؤكد في فيلم «شالوم الرياضي» ضرورة تقدير الرياضيين والموهوبين وتقديم كل ما يلزمهم من دعم لما يبذلونه من جهد وعرق لرفعة أمتهم بين الأمم. انشغل «شالوم» في هذا الفيلم كما في غالبية أفلامه بقيم المواطنة فلا فرق بين الصديقين لاعب الكرة «سيد» و«شالوم» بائع الفول اليهودى اللذين تحالفا لينتصر فريقهما الوطنى على منافسه الأجنبي، والمعنى نفسه كان حاضرًا وبقوة في فيلمه الذى حمل اسمه أيضا «شالوم وعبده».
قدّم «شالوم» عددًا من الأفلام التى رسخت قيمًا نبيلة وانتزعت من القلوب ضحكات مجلجلة وهو لا يعلم أنه سيعامل بدون رحمة لمجرد أنه يهودى وأن عليه أن يدفع ثمن ديانته بعد أن كشفت الصهيونية عن وجهها القبيح ولاحت في الأفق نذر الشؤم باحتلال الصهاينة للأراضى العربية فتم تهميشه وحذفت سيرته من تاريخ السينما للدرجة التى لا نعرف فيها حتى الآن ما هو الاسم الكامل لهذا الفنان المصرى الأصل والهوى.
لم يقو هذا الرقيق الموهوب على تحمل الإساءة وسوء الفهم كما لم تتحمل روحه الشفيفة اعتباره خائنًا فانزوى بعيدًا حتى قرر الرحيل إلى روما تاركًا وراءه آلام الوحدة والتهم الظالمة والأحكام المسبقة.
لم يكره «شالوم» شيئا أكثر من الصهيونية التى سببت له المتاعب وأبعدته عن فنه وأرضه ولم يجد تعبيرا عن كراهيته لها أوضح من موته في اليوم الذى تم فيه الإعلان عن قيام الكيان الصهيونى على أرض فلسطين في العام 1948.
رحم الله شالوم.. والسلام.