رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تهذيب النفس وتثقيف العقل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ينزع "حسين المرصفي" ــــ مع معظم التربويين في الحضارة الإسلامية بخاصة، والمعنيين بالتعليم وتربية النشأ بعامة ــــ إلى أن أداب المتعلمين وأخلاقيات العلم وأربابه مقدمة على تزويد العقل بالمعارف وتثقيف الأذهان بالمناهج والعلوم، فطالما ردد بعض المقولات المأثورة (إذا عجز المعلم عن تهذيب طلابه، باتت كل دور العلم معقل للأشرار لا يتخرج فيها سوى المفسدين).
ومقولة الشاعر "إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما،،،، فأصبر لدائك إن أهنت طبيبه وأصبر لجهلك إن جفوت معلما."
وذلك إستنباطاً من المأثور "لا تعلموا أولاد السفلة العلم، فإن علمتموهم فلا تولوهم القضاء والولاية."، وقوله (صلى الله عليه وسلم) "لا تمنعوا العلم أهله فتظلموا، ولا تضعوه في غير أهله فتأثموا."
والمقصود "بالسفلة" ليس الطبقة الاجتماعية أو الجنس أو النسب المنحدر منه الطالب، بل البيئة المنحطة التي نشأ فيها التلميذ فطُبع سلوكه بفسادها وشرها.
فمن العسير على المعلم أو المدرسة إعادة تأهيل الطلاب وتهذيبهم وذلك لأن أثر البيئة الأولى والعائلة المحيطة به أكبر من تلك السويعات التي يقضيها المتعلم في معية مهذبيه.
ويقول "المرصفي" في ذلك "الأدب كلمة دارت على الألسنة، وإستخفتها القلوب وإستحلتها النفوس وإستعملها الناس في التناصح والتزاجر، ونعماً هي والوطنية كلمتين لو تحقق معناهما عند جميع الناس ــــ سكان الأرض الواحدة والأفق الجامع ـــــ لم يتعد أحد على أحد وكانوا يداً واحدة في تحصيل المنافع ودفع المضار أمراً يندفعون إليه بالطبيعة سهلاً لا كلفة فيه ولم تكن الحكومة فيهم إذ ذاك إلا تتميماً للنظام وتكميلاً للهيئة وكان الحاكم الشرعي مفتياً لا قاضياً، إذ يكون حينئذ غرض الناس إنما هو إستكشاف الحق ومعرفة المشروع، ثم الإمتثال والمضي مع الأحكام الشرعية لا يطمع أحد في كسب أحد ولا يستكثر نعمة الله عنده راضياً بأفعال الله، ,وإعترافاً بسابق حكمه."
ويؤكد "المرصفي" على ضرورة إلتزام المعلمين بمهام وظيفتهم وينظرون إليها على أنها رسالة أدبية وواجب وطني فمسئولية صناعة العقول ليس بالأمر اليسير فالمدرسة هي أهم أعمدة المجتمع وهي البوتقة التي يتخرج فيها بناة المستقبل ومن ثم يجب على المعلم أن يتحلى بالحيّدة والموضوعية والصدق والأمانة في شرح المعارف والعلوم لطلابه دون أرائه الشخصية وميوله وإنتماءاته حتى لا يتأثر التلاميذ بأفكاره ومذهبه، ويقول "حقيقة الأدب أن يعرف كلٌ حدود وظيفته، فلا يتخطاها حتى لا يكون داخلاً فيما لا يعنيه ويحسن إسلامه كما قال (صلى الله عليه وسلم) (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، ولا يقصر عن تأدية وظيفة فيعد مفرطاً ويعرض نفسه للعتاب أو العقاب ولهذا المعنى يشير القائل "أي ما روي عن البحتري(820م-897م)" (من تمام جدك وقوفك عند حدك).......وبهذا يتبيّن أنه لا يتم صلاح الأمة إلا بعموم المعارف."
ويوضح مفكرنا إن للمتعلمين رسالة يجب أن يخلصوا في أدائها، ألا وهي توعية الرأي العام وتوجيهه وترغيبه في الإقتداء بهم ومن ثم يجب عليهم التحلي بالفضائل الخلوقية والتسامح والبر في ما بينهم والتواضع والوفاء لمن تعلموا على أيديهم والعزوف عن الكبر والتعصب وعدم التعالي على من هم دونهم من أرباب الحرف والعمال والزراع قانعين بأن معيار التفاضل بين كل أفراد المجتمع هو شدة ولائهم لوطنهم وتفانيهم في خدمته والزود عنه في الداخل والخارج.
فمن السخف أن نفاضل بين الطبيب والعامل الحرفي تبعاً لطبيعة وظيفته أو أجورهم، بل التفاضل والتنافس في مقدار كل منهم في التمكن من عمله وأمانته في أدائه.
فالواجب على المتعلمين الذين إرتقت أذواقهم وتثقفت عقولهم وسلمت نفوسهم من كل شر تنوير العوام وتنبيه الغافلين وتقويم المضللين والجانحين وذلك بترغيبهم في دستور الحياة المتمثل في الإلتزام بالأدب، ويقول " إنما الواجب على أرباب العلم أن يحثوا على الأدب ويزينوه في القلوب، ويذكروا محاسن فضائله ويرغبونهم فيها، ويكتبون في ذلك رسائل متقاربة الأطراف تتناولها الإفهام ويشافه الناس بها بعضهم بعضاً، حتى تصبح أمراً مستمراً مرعياً خصوصاً مع الناشئة..... فلا شبهة بعد في أن أصل عموم الصلاح للأمة هو طهارة الأخلاق، والتحقق بمعنى الوطنية وملازمة الحدود الأدبية، وعلى كل من أسند الله إليه شيئاً من أمور الأمة أن يبذل جهده في أحكامه ويصرف كل أوقاته في الإشتغال به ويدقق النظر في تحسينه، مستعملاً في ذلك الإستشارة وإذا أشير عليه بما هو داخل في التحسين، بادر إلى إمتثاله وأسرع في تحقيقه، والله الهادي."
ولا أخفي عليك عزيزي القارئ صوت نحيب قلمي وأسفه على ما نحن فيه من جنوحٍ وتجاهل وإنصراف عن تلك الدروس، وما تحمله الكلمات من أدوية لجل أدوائنا الأخلاقية والإجتماعية والثقافية والتربوية، فأصل الداء في تمردنا على الأدب الذي حسبناه قيداً موروثاً فكفرنا به ورغبنا في عوائد السفلة، وعظمناها تارة باسم الحرية وإثبات الذات وإختلاف الأذواق وتطور العقول.
فبات القدح والتهكم والحمق سياجاً يحيط بنا، ومنطق إصطنعناه في أحداثينا ومناقشتنا في كل الأوساط ومع كل الأغيار وبات المتعلمون أكثر إقبالاً وإقداماً ورغبةً على كل شاذ وشاطح وجامح، وأضحي الشذوذ مدخلاً للتميز، أما الكذب والتدليس فأمسى لغة المتعالمين، أما العقوق والفجور والتبجح فقد نال حظاً موفوراً في عوائد النشأ، أما القسوة والعنف والإستبداد فإنتحله أهل الرأي والمتطلعين للسلطة.
نعم تلك شكاية قلمي الذي أشفق على صاحب "الكلم الثمان"، فلو قدر له أن ينظر من مقامه إلى واقعنا المعيش لحمد الله على كف بصره حتى لا تلوثه صور الفضائل المذبوحة، التي لم يدرك منها سوى رائحة الأدب الذي إستحال إلى جيّفٍ نتنة يصعب التخلص منها أو معالجتها.
ورغم ذلك كله فإن اليأس لم يتملكني ولم أصاب بفيروس الإحباط، فالأمل كامن وسوف تلفظه مصر من رحمها، ممسكاً بحبل الحياء ومصباح العفة، ساعياً إلي المدرسة ليتعلم ويفهم ويعي مواطن الإتقان في "الكلم الثمان".