الثورة لحظة والدولة حياة، الثورة لحظة تصحيح مسار تنفجر فيها طاقات الغضب مهما طال الزمن، ومهما تمكنت السلطة الغاشمة من فرض سطوتها وسيطرتها على المشهد، وهى لحظة تكررت مرتين خلال أقل من ثلاث سنوات، فى مصر، مرة فى 25 يناير 2011 لتخرج بالوطن إلى حياة يستحقها وتطلق شرارة مارثون اللحاق بالتطور والتنمية والحرية، لكنها لم تكن تحسب أن ثمة قراصنة يتربصون به وبها، وبفعل وهج اللحظة وبفعل تحالفات مع قوى إقليمية ودولية كانت ترتب لتفكيك الوطن وتدجينه اختطفت الثورة وقفزت عليها قوى رجعية تعيد إنتاج ماض تولى وفارقته اللحظة، فما كان من شباب الثورة إلا أن ينتفضوا لحساب وطن ولحساب حريته ومستقبله، فكانت ثورة 30 يونيو 2013 المجيدة، والتى أعادت اللحمة بين الجيش والشعب وأعادت الثقة فى جهازها الأمنى الذى يذود عن أمن الوطن بتكلفة غالية، لكنها تقدم عن طيب خاطر فى بوتقة كشف معادن رجالها وأصالتهم.
كانت اللحظات الأولى لإعلان نجاح الثورة حاسمة وواضحة كشفت عن أن ثورة التصحيح استوعبت دهاء وخديعة قوى الشر بتنويعاتها وتحالفاتها، فحددت فى بيانها خطوات محددة فى خريطة الانتقال للمستقبل، وكان مشهد الإعلان نفسه يحمل رسالة لا تكتب إلا فى مصر، حين وقف القائد العام للقوات المسلحة يعلن نهاية اختطاف الوطن ويرسم بكلمات جادة ومحددة تحرك مصر للسلام والحرية، وتحتضن الصورة الرموز المصرية المعبرة عن كافة الأطياف من قوى وطنية، الشباب والشيوخ والأقباط والمسلمين، وهو ما ترجم على الأرض فى التماسك الوطنى رغم كل محاولات الترويع التى اقترفتها أيد آثمة سعت وما زالت لتقويض حراك الشعب واسترداده لحريته وكرامته.
وجاء الاستفتاء على الدستور بعد تنقيته من عبث المختطفين لطمة على وجه المتآمرين ومن يمسكون بخيوط تحريكهم ودعمهم، فتحول الاستفتاء إلى عرس وطنى سجل مشاهد ستبقى ماثلة فى الذاكرة الوطنية، تقول للأجيال الواعدة، إن مصر قد تمرض لكنها فى لحظة تسترد عافيتها، وتخرج هادرة متحدية كل المخاوف، كانت المرأة المصرية سليلة نفرتيتى وكليوباترا وصفية زغلول وباحثة البادية وأمينة السعيد، هى القوة المرجحة ورمانة الميزان فى المشهد، وكان حكماء الوطن يتحدون شيخوختهم فى طوابير الاستفتاء وكان الشباب وقد صقلته أيام الثورة يتخلل المشهد ويتحدى أبواقا انهزامية حاولت تشكيكه وبلبلته.
وبعد أيام قليلة نستعيد مشهد العُرس المصرى ونحن نختار الرئيس المصرى المكلف شعبياً بترجمة مطالب الثورة "عيش.. حرية.. كرامة إنسانية" وهو يخوض معركة التغيير الحقيقية التى غابت طويلاً، وهو يواجه تحديات جمة، وينتقل بإدارة الدولة من الفرد إلى المؤسسة، فلم يعد نموذج الرئيس الفرد مناسباً لعصر الجماعية، وفق تطورات علوم الإدارة وضغوطات اللحظة، وهو مطالب بأن يطلق سراح الإبداعات البشرية المصرية بتنوعاتها، ويعيد اكتشاف قدرات الشعب بكل مكوناته وأجياله، يلتفت إلى دول تشبهنا فى تاريخها وحضارتها فى العالم الثالث وكيف انطلقت إلى آفاق التقدم، وانتشلت اقتصادها من القاع لتقف فى مستوى الدول المتقدمة، تجربة الهند وماليزيا والبرازيل والمكسيك، كيف واجهت التخلف والانقسام والتبعية، وأعادت الثقة إلى شعوبها، وأخذت بأسباب التقدم، وأسست لديمقراطيات حقيقية، انعكست على مستوى معيشتها.
والرئيس القادم مطالب بمواجهة غول الفوضى الذى أطلقته الأنظمة السابقة، وغول الفقر الممنهج وغول الجهل عبر ثورة تعليمية لا تقل فى أهميتها وحتميتها عن ثورتى الشباب، ولعل القاعدة التى ينطلق منها هى الدستور الذى نقل التعليم والبحث العلمى من دائرة الاهتمام التقليدى إلى دائرة الإلزام الدستورى، وحصن الحريات والحقوق وجرم انتهاكها، بل ووضع الرئيس فى دائرة المساءلة التى تصل إلى المحاكمة والعزل حال انتهاكه للدستور فى سابقة تعيد الاعتبار لحكم الشعب.
ونحن ننتقل من الثورة إلى الدولة لا بد أن نتحمل مرحلة الانتقال الوجوبية باقتصادها الحازم، الذى يجب أن يتبنى سياسة تقشفية جازمة يخضع لها الغنى قبل الفقير والمسئول قبل المواطن العادى، نعيد فيها ترتيب أنساقنا الاستهلاكية، ونعيد الاعتبار لقيم العمل والإنتاج والمهارة والإتقان والعمل الجماعى، وتتخلص أحزابنا من فكر المناورات السياسية لحسابات ضيقة، وتضع الوطن على قمة اهتماماتها، حتى لا يجرفها طوفان التغيير من شباب لم يعد قادراً على الصبر تجاه من يتلاعب بيومه وغده.
للانتقال للدولة كلفته وعلينا أن نتقاسمها بوعى، وندرك أن التنوير واستيعاب المتغيرات العالمية وإعادة الاعتبار للإنسان المصرى منطلقات العبور للاستقرار والتنمية سعيا لغد أفضل.