في المقال السابق توقفنا عند رئاسة مبارك للجنة التحقيق العسكرية التى أعقبت نكسة 67 والمنوط بها الوصول إلى حقيقة الحفل الساهر الذى أقيم بقاعدة أنشاص مساء الرابع من يونيو، والـذى سرت عنه شائعة تؤكد أنه من تدبير الموساد إلهاء ضباط الجيش، لا سيما قادة القوات الجوية قبيل الضربة الإسرائيلية المفاجئة بساعات قليلة، وأثناء التحقيق استدعى مبارك فنانة شهيرة شاركت في الحفل وأخذت تتحدث كثيرًا منتقدة سلوك القادة الذين كانوا – حسب وصفها – أقل من الموقف وأدنى من المسئولية التى كانوا يواجهونها، وفجأة تطرقت الشاهدة إلى قاعدة بنى سويف الجوية قائلة: يكفى أن تعرف ما حدث في قاعدة بنى سويف الجوية صباح 5 يونيو، فحبس مبارك أنفاسه وتغلب على مشاعر الدهشة التى تملكته وسألها بهدوء مفتعل: ومـا الـذى حـدث في بنى سويف في ذلك اليوم؟ فاندفعت تقول: كان قائد مطار بنى سويف ينام في شقة خاصة استأجرها، وعندما وقعت الكارثة استيقظ على صوت القنابل والـصـواريـخ، وبــدلًا من أن يستجمع شجاعته ويسارع بالذهاب إلى قاعدته الجوية إذ به يفقد صوابه ويندفع مهرولًا في الشوارع بجلبابه ولولا بعض المسئولين في المحافظة لفتكت الجماهير به، وسألها مبارك وقد آثر ألا ينفعل وأن يستجمع هدوءه: هل شاهدت هذه الواقعة بنفسك؟ فأجابت بمنتهى الثقة: بل شاهدها كل سكان مدينة بنى سويف، والقصة منتشرة ومـعـروفـة لكل مـواطـن فـى مصر، وتبادل أعضاء اللجنة الابتسامات مع مبارك الذى حافظ على هدوئه، وتساءل للشاهدة: وهل تعرفين اسم هذا القائد؟ فردت: وبماذا يعنينى اسمه، المهم عندى كمصرية أنه ترك قاعدته تضرب وهو بعيد عنها، وحين فاجأه العدو فقد صوابه وجرى في الشوارع بملابس النوم، ووجد مبارك نفسه يقول للشاهدة: ولكن قائد قاعدة بنى سويف لم تكن له شقة مؤجرة، وحين ضربت قاعدته لم يجر في الشوارع، فصاحت الفنانة الشاهدة: كيف تصدق هذا الكذاب، فرد عليها مبتسمًا: أصدقه لأننى أنا هذا القائد الـذى تتحدثين عنه، وهنا بهتت الشاهدة وظلت صامتة وهى تسمع الحقيقة التى رواها مبارك، فحين ضربت القاعدة كان هو وخمسة من الطيارين يحلقون في سماء المدينة ولما علموا بالكارثة توجهوا إلى مطار الأقصر، وكتب مبارك في تقرير اللجنة يحذر من خطورة الشائعات التى تتسرب من أعداء الوطن، وتهدف إلى الوقيعة بين الشعب وبين ضباط جيشه، وتوصل من خلال التحقيقات إلى أن الحفل لم يزد على فقرات فنية أعدتها إدارة الشئون المعنوية ولا دخل لتاجر أو خلافه في إقامته كما تـردد، ولم يكن بالحفل أى تجاوزات أخلاقية، وقد انتهى في الحادية عشرة مساء ولم يحضره جميع قادة القوات الجوية كما أشيع، وسلم مبارك تقرير اللجنة إلى القيادة الجديدة لسلاح الطيران، وعاد إلى مقر عمله في مطار غرب القاهرة، وهو المقر الجديد للواء الذى يقوده بعد ما ضرب مطار بنى سويف، وفى الثانى من نوفمبر 67 كان الرئيس عبدالناصر سيستقل طائرة من مطار غرب القاهرة في رحلة داخلية لتفقد بعض مواقع العمل، وكالعادة اصطف القادة في المطار لمصافحة الرئيس، ومن بينهم المقدم حسنى مبارك الذى ما إن صافحه عبدالناصر حتى أمسك طويلًا بيده ونظر في عينيه وكأنه على عالقة وثيقة به وسأله: أنت هنا بتعمل إيه؟ فأجابه مبارك: أنا قائد اللواء. وقبل أن يكمل كلامه قاطعه عبدالناصر مــرددًا: أنت تـروح الكلية الجوية فورًا، والتفت للفريق محمد فوزى القائد العام الجديد للقوات المسلحة، والذى كان بصحبته قائلًا: يافوزى مبارك يمسك الكلية الجوية من بكرة الصبح، هنا أدرك مبارك أن عبدالناصر يعرفه جيدًا، وأنه على دراية بضباط جيشه، ففرح لكون عبد الناصر يعرفه، ولكن لأنه كان يظن أن المشير عامر قد قطع الصلة بين القائد الأعلى وضباط الجيش، وها هو عبدالناصر ينسف هذا الظن، فمن الواضح تمامًا أنه يعرف من هو المقدم طيار حسنى مبارك، وهو على يقين بأن هذا القائد من أكفأ المدربين العسكريين، ويجب أن يكون مسئولًا عن إدارة الكلية الجوية في هذا الوقت العصيب الذى يتطلب تخريج دفعات من الطيارين المهرة استعدادًا ليوم الكرامة.. وللحديث بقية..
آراء حرة
مبارك: فصل من التاريخ "8"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق