رغم تعدد الأصوات التى صدحت بأغنية «يا رايحين ع حلب»، لكن تظل السيدة فيروز هى الأقدر على مس شغاف القلوب بهذه الكلمات التى تعبر وبقوة عن لوعة الفراق التى يكابدها العشاق.
ولو كان يعلم صباح فخرى، ولو كانت تعلم فيروز ما ستؤول إليه الأحوال فى سوريا ومدينتها الشهباء «حلب» لربما تدخلا فى المقطع الذى تتمايل فيه الموسيقى الحزينة لتقول والدمع ملء الجفون: «شو عملت الحرب.. الله يجازيها».
سنوات طوال وأنا أسمع هذه الأغنية وأرددها خلف صباح فخرى، ولكننى أحببتها أكثر بصوت فيروز وموسيقى الرحابنة، لكنى لم أكن أعرف ماذا تعنى كلمة «الروزانا»، وما هى قصة هذه الأغنية التى تشبه «العدودة» المصرية فى حالتها، على الأقل من حيث الشجن والنحيب.
لم أكن أعرف أصل كلمة «الروزانا»، ولا أصل الأغنية التراثية التى يصل عمرها إلى أكثر من مائة عام، إلى أن اهتديت إلى بحث أعده الباحث والموسيقى السورى الدكتور سعدالله أغا القلعة، الذى حاول فيه تتبع مسار هذه الأغنية؛ ليصل إلى حكايتها ومعنى «الروزانا»، واكتشفت أن أول من غنت هذه الأغنية هى مطربة مصرية تدعى إيميلى الإسكندرانية، والتى من المرجح أنها وصلتها من بلاد الشام وجبل لبنان عبر حركة البواخر بين الموانئ الشامية والمصرية.
الأغنية رغم قصرها إلا أن وراءها روايات كثيرة وطويلة، يروى «الأغا» إحداها:
أن «الروزانا» سفينة نقلت بقرار عثمانى شحنة كبيرة من البضائع إلى لبنان خاصة السلع الغذائية، لتطرحها بأسعار زهيدة بقصد إغراق الأسواق اللبنانية ما كان سيؤدى إلى كساد المنتجات اللبنانية وإلى إفلاس التجار اللبنانيين، لكن تجار حلب عاصمة الاقتصاد الشامى والإقليمى هبوا لنجدة إخوانهم اللبنانيين، فاشتروا المنتجات اللبنانية بسعرها الحقيقى وأهمها التفاح، وأنقذوا لبنان من كارثة اقتصادية حقيقية، وأرسلت البضائع إلى حلب ورافقها حبيب من جاءت الأغنية على لسانها.
ونفى أغا عن القصة واقعيتها، لأن اسم السفية «روزانا» أوروبى، وليس اسما تركيا ولا عربيا، فيما لو كان هناك قرار عثمانى بإغراق الأسواق اللبنانية، فالمفترض أن تكون السفينة تركية، وتساءل كيف تريد إسطنبول عاصمة العثمانيين إغراق الأسواق اللبنانية، ولبنان واقعة بالكامل تحت السيطرة التركية؟
يعتبر الباحث أن هذه الرواية هى الأقل تداولا مقارنة بالرواية الأولى وتقول بأن «الروزانا» معروفة فى العراق كفتحة صغيرة بين البيوت العربية المتجاورة، وتستخدم للحديث بين الجيران من النسوة أو لتبادل الطعام وما شابه مما هو سائد بين الجيران فى البلاد العربية، ولكن حبيبين متجاورين استخدماها لأحاديث الحب والعشق ما تسبب فى إغلاقها، وفى سفر الحبيبة إلى حلب مع والدها الذى كان يتاجر بالتفاح والعنب.
ورغم ما توحيه الرواية بأن الأغنية عراقية الأصل كما يرى الأغا، لكن العنب والتفاح ليسا من المنتجات الزراعية الرئيسية العراقية القابلة للتصدير أصلا، فى زمان لم يكن فيه من وسائط الشحن إلا أبسطها إلى حلب البعيدة نسبيا حسب نص الأغنية، والتى كان لديها من التفاح والعنب فى الزمن الماضى ما يكفيها استيرادا من الأراضى القربية المحيطة بها، سواء من الإسكندرونة أو اللاذقية أو لبنان، كما أن الأحداث تبدو مركبة من حيث سفر الحبيبة إلى حلب مع شحنة تفاح وعنب، ناهيك عن أنها لا تبرر لماذا ركزت الأغنية على وضع التفاح تحت العنب، كما أن تسمية الفتحة بين البيوت بـ«الروزانا» غير شائعة فى حلب أو لبنان، حيث عُرفت الأغنية واشتهرت، وإن كانت هذه التسمية معروفة فى الجنوب السورى كما يقول الباحث.