شكسبير وثربانتس وبروست ولوركا.. كتبوا روائع أدبية صنعتها العزلة، الاختيارية أو الإجبارية، فقد عاشت الإنسانية ومبدعوها لحظات محفوفة بالمخاطر، جسدتها روائع روائية ودواوين شعرية ولوحات تشكيلية أيضًا.
فى هذا الظرف الاستثنائى الذى نعايشه علينا أن نعيد قراءة التاريخ ولا سيما «تاريخ الأوبئة» لنعرف أن أسلافنا عايشوا ظروفا كالتى نعايشها، بل ربما كانت أصعب فى زمن لم تكن فيه رفاهية الحصول على المياه فى شقتك، ولم يكن هناك اتصال بالعالم عبر الإنترنت، فالأدباء والكتاب لم يكن بمقدورهم قراءة الكتب «أون لاين»، أو التواصل مع القراء إلى آخره من مميزات عصرنا الحالى.. لكن اللافت هو أن روائع الأدب العالمى كتبت فى أحلك الظروف وفى عزلة تامة دون الاعتماد على شبكة علاقات عامة تساند الكاتب أو فرق افتراضية تشيد بعمله الأسطورى، لكنها فى صمت تخطت المحن لتظل خالدة!
فمنذ عصر النهضة تقريبا، منذ عام 1600، بدأت أزمنة الخوف من انهيار الحياة البشرية، ومرت بها أوبئة ونكبات وحروب فكان جواب شكسبير للرد على الطاعون الأسود «أكون أو لا أكون» محاولة للتمرد فى مواجهة الموت.
وأثناء زيارتى لدولة الجزائر على مدى العامين السابقين، تعرفت على معلم رائع بالعاصمة، إذ كتب الروائى الإسبانى ميغيل ثربانتس روايته الأيقونية «دون كيخوتى دى لا مانتشا»، فى مغارة جبلية فى حى بلوزداد، طولها سبعة أمتار وعرضها متران فى وسط العاصمة الجزائرية، ونشرت على جزءين بين عامى 1605 و1615، حيث عانى تجربة الأسر وأنفق عزلته فى الكتابة.
وأشهر الأمثلة على روائع العزلة رواية «بحثًا عن الزمن المفقود» للروائى الفرنسى مارسيل بروست، والذى أجبرته إصابته بمرض الربو على الانعزال عن الآخرين، وحينما مات والده وأمه فى فترة متقاربة انعزل تماما فى حجرته، فكان يكتب كالمحموم فى غرفة مبطنة بالفلين لتعزل صوت العالم الخارجى عنه، ويغلق النوافذ بإحكام شديد، بل كان يعبق أجواء الحجرة بالمطهرات، فى مقاربة لما نعايشه الآن، كما أفاد كتاب «الرؤيا الإبداعية» لكل من هاسكل بلوك، وهيرمان سالنجر والذى ترجمه إلى العربية أسعد حليم، من إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب.
كانت تلك الأجواء التى كتب فيها بروست مجموعة من رواياته منذ العام 1910 إلى 1922، وهذه الفترة التى أعقبت الهجمة الثانية لوباء الكوليرا عام 1902، ثم ظهر وباء الإنفلونزا الإسبانية عام 1920.
الشاعر والفيلسوف البريطانى جورج مور، كان يؤمن بأن العزلة هى السبيل الوحيد للإبداع، كتب فى رسالته لإحدى طالباته: «إذا خرجت لتتسلى عندما تعجزين عن الكتابة، فسوف ينتهى فنك إلى لا شىء.. إذا أردت أن تسمعى صوت آلهة الوحى، فيجب أن تعدى ساعات لاستقبالها».
الشاعر والروائى البريطانى لورانس داريل صاحب «رباعية الإسكندرية»، هرب من صخب الحياة فى إنجلترا وفرنسا، وانعزل فى جزيرة «كورفو» اليونانية فى عزلة اختيارية، حيث كتب رواية «الربيع المتأزم"، التى صدرت عام 1937. وكان ينعزل فى برج فيلا أمبرون بحى محرم بك ليكتب.
أما الروائية الإنجليزية فريجينا وولف، صاحبة «غرفة تخص المرء وحده»، كتبت أيضا فى إحدى رسائلها لصديقتها فيتا ساكفيل فى فحواها أنها مدينة للعزلة بتطورها الإبداعى: «أقضى يومى مستغرقة فى التأمل وسط تلال من كتب أبى».
الشاعر البرتغالى فرناندو بيسوا (1888 - 1935) أيضا كان منعزلا بسبب إصابته بمرض «اضطراب ثنائى القطب»، حيث كان يخترع أصدقاء افتراضيين يعاونوه على العيش، وسخر تلك المهارة التخيلية فى كتاباته، ويقول فى كتاب «اللاطمأنينة»: «عزلتى ليست بحثًا عن سعادة لا أملك روحًا لتحقيقها، ولا عن طمأنينة لا يمتلكها أحد إلا عندما لا يفقدها أبدًا، وإنما عن حلم، عن انطفاء، عن تنازل صغير».
الشاعر الإسبانى فيديريكو جارثيّا لوركا كتب رائعته «بيت برنارد ألبا» من وحى عزلته متأثرا بالحرب الأهلية الإسبانية، والشاعر والروائى الإنجليزى أنتونى ترولوب (1815- 1882) كان يمارس لعبة فى عزلته: «أحلام اليقظة»، لكنه لم يكن ليسمح بأى أحداث مستحيلة تتسرب إلى قصصه، بل كان ينسج شخوصه والأحداث حولها بواقع يخصها.
العزلة فى جوهرها كنز مكنون، فهى تفتح الآفاق لإبداع مغاير يعود بنا إلى جوهر الأدب وهو خلق واكتشاف عالم جديد يسمو فوق العالم الحقيقى.
تذكرة: الوباء قَدم من الصين لكن الورق جاء من الصين أيضًا!