يواجه العالم اليوم في ظل تفشى الجائحة العالمية كورونا (كوفيد-19) أزمة معقدة ومركبة وربما تكون هى الازمة الاولى من نوعها التى تتضمن بعدين مطلوبين في الوقت ذاته ولكنهما للوهلة الاولي يبدوان متعارضين، وهما الحاجة إلى تشغيل الاقتصاد منعا لحدوث كساد تفوق تأثيراته الكساد الكبير الذى حدث في ثلاثينات القرن المنصرم هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ثمة حاجة إلى الحفاظ على صحة المواطنين خوفا من تفشى الوباء الذى ينتقل عن طريق التقارب والتلامس وهو ما يتطلب التزام المنازل وعدم الخروج إلا للضرورة الملحة منعا للاختلاط والتزاحم، وهو ما يعنى توقف الكثير من المصانع والإشغال تطبيقا لسياسة الحجر المنزلي كخط للدفاع الاول في مواجهة تفشى هذه الجائحة.
وفى ضوء هذا الوضع برزت دعوتان أو رؤيتان، الاولى تطالب بضرورة البدء في تخفيف قيود الحجر بما يضمن البدء في التشغيل لعودة الحركة إلى المؤسسات الإنتاجية ليس فقط في مجال الاغذية والدواء كونهما الأكثر احتياجا في تلك الظروف وإنما في كافة المؤسسات ضمانا لتحقيق التشغيل حتى لا يدخل الاقتصاد الوطنى في حلقة مفرغة تؤثر سلبا على قدرات الدولة وإمكاناته، وفى الوقت ذاته يقلل من النزيف المستمر في دفع الاستحقاقات الملزمة سواء من جانب رجال الأعمال حيال عمالهم أو من جانب مؤسسات الدولة التى تدفع رواتب موظفيها، فضلا عن الخسائر الأكبر التى يتحملها الاقتصاد الوطنى سواء في تقديمه لحزم الدعم المالي لكثير من الشركات والمؤسسات لتقليل حجم خسائرها أو في عجوزات الموازنة العامة مع زيادة النفقات وتراجع الإيرادات نتيجة لوقف السياحة وانخفاض أسعار النفط وضعف حركة التجارة العالمية وتراجع تحويلات العاملين بالخارج، وكذلك خروج كثير من الاستثمار الأجنبى خاصة في قطاع الدين العام، كما أشار إلى ذلك وزير المالية ان استثمارات الأجانب في أدوات الدين انخفضت من 28 مليار دولار إلى 14 مليار دولار. وتزداد خطورة هذه الأوضاع إذا اخذنا في الحسبان عدم وجود رؤية واضحة للخروج من هذه الازمة في ظل عدم التوصل إلى لقاحات فاعلة في مواجهة الفيروس.
على الجانب الاخر، برزت الرؤية الثانية التى تحذر من تخفيف قيود الحجر بل تطالب بزيادة الإجراءات الاحترازية في فرض حجر كامل في أوقات الإجازات منعا لتفشى الوباء وانتشاره بشكل يدخل البلاد في اتون معركة لا تملك فيها سلاحا فاعلا في مواجهة هذا العدو المميت بما يعنى تزايد في أعداد المصابين والضحايا، ومن أنصار هذه الرؤية منظمة الصحة العالمية التى ترى بأن:"الرفع السريع للحظر، قد يؤدى لعواقب وخيمة، منها عودة قاتلة للفيروس، وعلى الحكومات أن تكون على علم بالمرحلة الانتقالية لإنهاء الوباء". وطبقا لهذه الرؤية فإنه على الدولة ان تتحمل المزيد من الاعباء المالية والتكاليف التمويلية لدعم القطاعات الاقتصادية المختلفة وهو ما يعنى تراجع احتياطات الدولة على غرار ما أعلنه البنك المركزى من انخفاض احتياطى النقد الأجنبى 5 مليارات دولار منذ بداية الأزمة. ولكن انصار هذه الرؤية يرون أن هذه هى مسئولية الدولة تجاه مواطنيها وأن تتحمل تداعيات الازمة حفاظا على حيواتهم وصحتهم جميعا وهى المسئولية التى يؤكد عليها الرئيس عبد الفتاح السيسي في كافة تصريحاته وكلماته.
والحقيقة أن وجهتى النظر تحملان منطقا عقلانيا في جوهرهما، فإذا كان صحيحا ان حماية الاقتصاد الوطنى والحفاظ على مستويات التشغيل أمرا مهما حتى تستطيع الدولة والقطاع الخاص الاستمرار في تحمل أعباء هذه الجائحة إذا ما طال أمدها، إذ أنه ثمة صعوبة ستواجه أصحاب المشروعات بل والدولة كذلك إذا ظل الإغلاق مستمرا لفترات طويلة بما يمثل استنزافا للموارد وضياعا للفرص وتغييرا في نوعيات الإنتاج وحجمه. إلا أنه من الصحيح كذلك أن الدعوة لاستعادة العمل والتشغيل لحماية الاقتصاد تحمل مخاطر جمة سواء تعلق الأمر بحيوات المواطنين ومستقبلهم وهو الهم الاول والمسئولية الأولى لدى صانع القرار، أو تعلق الأمر بتكاليف العلاج والعزل الصحى، الذى يتطلب موازنات عالية – لا قدر الله – إذا ما تفاقمت الأحداث وتزايدت أعداد المصابين والضحايا، وهو ما سينعكس سلبا كذلك على الأوضاع الاقتصادية في المدى القريب.
ومن ثم، فإننا إزاء معادلة ذات طرفين تحتاج إلى حلحلة أو رؤية، وهي الرؤية التى قدمها الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته خلال تفقده عناصر ومعدات القوات المسلحة لمكافحة كورونا في أوائل أبريل الحالى، حينما أكد على أن الدولة:"تسعي للموازنة بين إجراءات مواجهة كورونا وبين الاستمرار في متطلبات الاستقرار الاقتصادي".
هذه هى الرؤية المحققة للتوازن المطلوب بين حماية الاقتصاد وفى الوقت ذاته الحفاظ على حياة المواطن الذى هو أداة التنمية وهدفها. وفى هذا الخصوص يبرز الطرح الذى قدمه مؤلف كتاب "العدو المميت.. حربنا ضد الجراثيم القاتلة" ميشيل أوسترهولم الأستاذ في جامعة مينسوتا الأمريكية، حيث تتلخص رؤيته في أنه:"علينا إعادة تشغيل الاقتصاد بطريقة ما، لأنه لا يمكن أن نعيش في الإغلاق لعشرين شهرا، ولو أغلقنا البلاد كما فعلت ووهان فسندمر المجتمع الذى نعرفه وإذا سمحنا للفيروس أن ينتشر فسوف ندمر نظام الرعاية الصحية لدينا، وندمر معه الاقتصاد".
معنى كل ما سبق أن الدولة في حاجة إلى رؤية واضحة ومحددة لتحقيق هذه المعادلة الاقتصادية- الصحية، فالتشغيل وإن كان أمرا ملحا ومطلوبا لحماية الاقتصاد، فالاحتياطات والتدابير الصحية أمرا ضروريا للحفاظ على حياة المواطنين.