رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المجددون وفلسفة التعلم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لما كان السؤال هو المحرض الأول لإخراج الفلسفة والعلم من رحم العقل فبات لزاماً على المجددين الإجابة عن الأسئلة المطروحة حيال هذه القضية، ألا وهي لماذا نتعلم؟، كيف نتعلم؟، ماذا نتعلم؟
وقد تعددت إجابات التربويين تبعاً لتطور الثقافات ووجهة الذين تصدوا لهذه القضية، فعن السؤال الأول ذهب المثاليون إلى أن التعلم غاية في ذاته لأنه زاد التفكير المميز للإنسان عن غيره من الموجودات، ومنهم من نزع إلى أن التعلم أداة الإدراك والوعي الذي يكشف عن هوية الأنا الإنسانية العاقلة. فبدونه يعجز الإنسان عن العيش في هذه الحياة، حيث التعرف على الموجودات من حوله والتمييز بينها ثم إدراك ذاته بعد تأملها.
وتطورت الإجابات تبعاً لتفاعل ذلك الكائن العاقل المتعلم مع مدركاته من جهة والواقع المعيش من جهة أخرى.
فلم يصبح التعلم مصباحاً لإزاحة ظلمة الجهل التي تحول بين العقل والمعرفة، فراح التربويون يوضحون أن الغاية من تحصيل المعارف هو التطلع إلى الكشف عن المجهول وفضح المستور وتفسير الغامض، وإستشراف المستقبل وإعادة بناء الواقع والتحكم في المألوف وهدم الثابت وخلق عوالم بديلة والبرهنة على سيادة الأنا المفكرة وقدرتها على التفكيك والهدم وإعادة البناء.
أما السؤال الثاني فلم تتباين إجابات التربويين إلى درجة الإختلاف بل جاءت لتتكامل وتتأزر، فقد انصبت حول ألية التعلم وكيفية الإدراك وتحصيل المعارف المختلفة وتنظيمها وحفظها ثم استدعائها ومراجعتها، فذهب البعض إلى إننا نتعلم عن طريق التذكر، أو الإلهام من قوة خارجية في حين أكد التربويون أن التعلم يحدث عن طريق التواصل مع الآخر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فالبحث الذاتي المتطلع لإدراك البيئة أو الوجود هو الذي يزودنا بخبراتٍ تمكننا من إقتحام المجهول وتنقل أذهاننا من مقام الجهل والغموض إلى المعرفة والوضوح، فالتجربة والممارسة هي الآلية الأولى المباشرة للتعلم، ثم يأتي التواصل غير المباشر مع المعرفة وهو المتمثل في التواصل مع الأغيار بالإخبار والتلقين ثم الحفظ إلى أن يصل العقل لدرجة الوعي وتصنيف المعارف.
وسرعان ما تمرد الفلاسفة والعلماء على تلك الكيفية وبينوا إننا نتعلم عن طريق الإستنباط والتحليل المنطقي والاستدلال الجامع بين العقل والتجربة والنقد الذي يغربل المعارف ويقيّمها ويصنفها إلى مسلمات ويقينيات ويميز بين الجائز والمحتمل والمستحيل والعلمي والخرافي وما ينبغي الشك فيه ونقله من درجة الظن إلى درجة المجهول أو الغير معقول والغيبي والمتخيل والشعور الزائف.
ومع تطور المعارف والمناهج المعاصرة راح التربويون يبحثون عن ألية أو منهج لحماية العقل من التدليس والكذب والشك المرضي، بالإضافة إلي الأمراض التي تصيب العقل فتقعده عن القيام بمهامه، وعلى الجانب الآخر نجد بعض العلماء يبحثون عن آليات لتطوير التفكير البشري وتقوية ملكاته واستحداث آليات للتواصل وإعادة قراءة الركام المعرفي الموروث والاستعانة بالعوالم الإفتراضية لقراءة خزانة العقل ومعرفة خبايا الحواس الداخلية واستنطاق ما يرفض العقل البوح به أو الإفصاح عنه ــــ مكنون النفس ــــ.
وتأتي الإجابات عن السؤال الثالث ــــ ماذا نعرف؟ـــــ، فعلى الرغم من إختلاف إجابات التربويين الظاهر فأنهم قد إتفقوا في الحقيقة على أن الإنسان يتطلع إلي معرفة كل ما يثير فضوله ودهشته، ذلك المعيار الذي يفصل بين الثقافات والحضارات ويميز بين الجاهل والأمي والأحمق والفيلسوف والعالم والمخترع، ويوضح كذلك المعيار الذي تنظم بمقتضاه أهمية المعارف ومدى صلاحيتها وسلطة وقوة تأثيرها على العقل ومدى فاعليتها في رحلة التقدم إلي الأمام أو التراجع إلي الخلف أو الجمود أو التعصب أو التطرف أو المجون أو الولاء أو الإغتراب وغير ذلك من مقاصد ومألات ومشاعر ونزاعات ونفور وإنعزالات.
ويبدو أن مفكرنا "حسين المرصفي" قد إضطلع على تلك الإجابات التي لفظها الفلاسفة والعلماء التربويون في الأحقاب والثقافات المتباينة على مر التاريخ، ولما كان مفكرنا ملتزم بالنسقية والموضوعية فقد نظر إلي فلسفة التعلم على إنها مشروع استثماري لا غنى عنه لبناء الإنسان لتقويم سلوكه من جهة وتأهليه ليصبح مواطناً صالحاً لخدمة مجتمعه والعمل على تقدمه من جهة أخرى.
فالعلم عنده ليس نافعاً في ذاته بل أن قيمته تحدد بمدى إثماره، شأنه في ذلك شأن الفلاسفة العمليين، فطالما ردد مقولة "أبي حامد الغزالي" (العلم بلا عمل لا يكون، والعمل بلا علم ضرب من الجنون).
وقد إتفق مع معظم التربويين على أن الغاية من التعليم لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق تفعيل المنهج الناقد في وضع متطلبات مهنة المعلم والمتعلم من حيث مستواه المعرفي واستعداده الذهني والتزامه الأخلاقي، فوضح أن المعلم هو الآلية الغير مباشرة لتمكين الذهن من إدراك المعارف وأن أثر أسلوبه ونهجه وخصاله المهنية والشخصية لا يمكن إغفالها كمعيار انتقاء المعلمين، الذين يؤثرون تأثيراً مباشراً على المتعلمين وأن خبرتهم هي التي تمكنهم من التواصل الجيد مع طلاب العلم فيحببونهم في تحصيل المعارف أو ينفرونهم منها وهي التي تمكنه من التعرف على قدرات التلاميذ الذهنية ومدى صلاحيتها لإستقبال المعارف النظرية أو العملية، وكذا إستلهام الملكات وتنميتها وتقوية المهارات الفردية في شتى شئون الحياة ، ويقول عن أهمية المعلم. 
"أنه إنسان أكملته التربية يحاول أن ينقل صورته ونظام أحواله إلي غيره، ليكون خلفاً منه فإن لم يكن وهو غير كائن فإن أمر التربية مهمل، والناس متروكون للصدفة وكيف لا وليس لأحد فكر في معنى الوطنية والحماية والإنسانية، إذ غاية الواحد أنه متردد بقائد الضرورة وسائق الحاجة في تحصيل ما يعيش به ويمسك رمقه وقد رسخ في طبعه حب النزاع والاستلاب والاغتصاب والاختطاف والاستئثار وقهر الغير والاستيلاء وغير ذلك من الرذائل، وإنما يصده عن ذلك ما قام به البعض، بدلالة هذه العدوانات من الضبط وكف الناس عنها."
وحري بنا أن نتسأل، هل يمكننا تفعيل المنهج التربوي المعاصر في اختيار متطلبات المعلم وأخلاقيات المهنة في معاهدنا التعليمية ومدارسنا وجامعتنا، وفي منابرنا الثقافية أيضاً، التي أضحت مستنقع عميق للجهلاء والحمقى والمتعالمين؟؟؟.
وللحديث بقية.