لم تكن قرارات أمريكا بتجميد المبالغ المستحقة عليها لمنظمة الصحة العالمية، والتى تقارب الـ450 مليون دولار سنويا، سوى إعلان بانسحاب أمريكا عن موقعها كقائد و«كبير» للعالم الذى يشهد الآن إرهاصات ما بعد «الكورونا».
وهو قرار- وصفه بعض مسئولى المنظمة الدولية بالخسة والنذالة - سيؤدى حتما إلى تغيير فى مراكز الدول وأوضاعها عالميا، لأن قواعد القوامة بين الدول تقترب من نفس قواعدها بين الأفراد، من يعطى أكثر له الكلمة العليا بكل تأكيد.
ويأتى قرار ترامب بتجميد دعم المنظمة العالمية ضمن سلسلة من القرارات المتضاربة التى اتخذها الرئيس الأمريكى منذ بدء ظهور جائحة «الكورونا»، وهو ما أدى إلى أن أصبحت أمريكا الدولة الأكبر فى عدد الضحايا الذين تعدوا النصف مليون مصاب فى خلال أيام، وما زالت مرشحة للمزيد من الضحايا فى خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة.
وكان أبرز الاتهامات التى وجهها ترامب إلى المنظمة العالمية انحيازها إلى الصين! مشيرا إلى أن المنظمة أخذت معلومات خاطئة عن الفيروس من الصين، وصدرت هذه المعلومات الخاطئة لكل العالم، وهو ما أدى بحسب زعمه إلى انتشار الفيروس فى بلاده بهذا الشكل السريع.
والاتهام - رغم افتقاره للأدلة العلمية - يأتى فى وقت بالغ الحساسية تبذل فيه المنظمة العالمية جهدا غير مسبوق فى تاريخها لمكافحة أضخم مشكلة صحية عالمية واجهتها منذ نشأتها حتى الآن. هو اتهام يشير إلى أن أمريكا التى كانت تضع نفسها على عرش العالم، يمكن أن تتخلى عن هذا العالم، وهو يعانى أضعف حالاته، وفى أشد الاحتياج لمن يأخذ بيده.
ورغم أن حديث ترامب مردود عليه لأن الأبحاث حول الفيروس ما زالت غير مستقرة. فالفيروس الجديد متحور وشديد التغير وما زال العلم يسبر غوره وكل الآراء والدراسات الحالية حوله معرضة للتغير فى أى لحظة، خاصة أنه لا يوجد حتى الآن أى عقار يمكن أن يشفى أعراضه ولا مصل أو لقاح يوقف انتشاره.
هى المقادير التى ترسم لكل مستقبله وموضعه الذى يستحقه، فرغم تحذيرات بعض الخبراء الأمريكان من انكفاء أمريكا على ذاتها وتخليها عن دورها العالمي، إلا أن لهاث ترامب وراء المال جعله يكشف أنانيته بشكل واضح ليحكم الخناق حول عنقه ويزحزح كرسى الريادة بعيدا عنه لصالح منافسته الصين.
وقرار تجميد الأموال المخصصة لدعم المنظمة العالمية، يمكن أن يتم تعويضه من جانب المنظمة التى ستسعى بالطبع إلى تعويض نقص مصادر دخلها وغالبا سيكون للصين دور فى هذا الأمر، خاصة أنها كانت فى الفترة الأخيرة الدولة الأكثر سخاء فى تقديم المعونات الطبية لمعظم دول العالم. وسيكون الخاسر الأكبر هنا هو أمريكا التى تنازلت طوعا لغريمتها عن موقع «صاحبة اليد العليا».
ولم تكن تصرفات أمريكا خلال الأزمة الحالية منفصلة عما قامت به إزاء منظمة الصحة العالمية. وكان قيامها بقرصنة المستلزمات الصحية وعرض أضعاف سعرها على البائع كى تستولى عليها – كما حدث فى صفقة المستلزمات الصحية التى كانت فرنسا اشترتها من الصين- إلا تمسكا بسلوك الصغار الذين لا يرون فى أنفسهم جدارة بموقع الكبار.
الحماقة إذن هى التى تقود أمريكا إلى التقوقع فى داخلها، وترى أن الضريبة التى يدفعها الكبير لكى يتسيد العالم إنفاقا باهظا فيه إسراف، لا يجب أن تجود به لغيرها حتى وإن فقدت بسببه دورا عالميا جعلها فوق سدة العالم لا ينازعها أحد فوق قمته. وتتعامل بمنطق التاجر الذى يحكمها بحرصه وبخله الذى يدلف به رويدا رويدا نحو القاع!