الثلاثاء 04 فبراير 2025
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

إبراهيم نصر الله ينشر فصلا من روايته "حارس المدينة الضائعة"

الروائي الفلسطيني
الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تستمر جريدة وموقع "البوابة نيوز" في نشر فصول من الروايات والأعمال الأدبية، من أجل إثراء الحركة الثقافية، حيث ننشر فصلا من رواية "حارس المدينة الضائعة" للروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله والصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون.
وقد كتب الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله عبر صفحته الخاصة فيسبوك أن عدد من الصديقات والأصدقاء طالبوه بنشر بعض فصول رواية "حارس المدينة الضائعة" التي تتحدث عن عمّان، وقد اختفى سكانها."
وأشار نصر الله إلى أن رواية "حارس المدينة الضائعة" تنتمي لروايات المستقبل والغرائبية والسخرية السوداء. كُتبت بين عامي 1996و 1997 وصدرت طبعتها الأولى عام 1998، في الرواية يختفي سكان عمّان كلهم "وسكان العواصم العالمية أيضا" في ظاهرة غامضة، ويبقى شخص واحد في عمّان يعمل مدِّققا لغويًّا في صحيفة. هنا تصوّرات بطل الرواية لعمّان، وفي فصول أخرى تخيله لها وللعالم في عام 2020 بالتحديد.
وهذا جزء من الرواية:
فَزِعًَا هبَّ من فراشِه
تناثرت الأغطية، تعثرت الأشياء المتناثرة على الأرض به، تعثر بها.
: يا للهول، لقد تأخرت.
راح يبحث عن حذائه، انتعل الفردة الأولى داخل الغرفة، الثانية في الحوش، وراحت يداه تحاولان في غمرة ارتجافهما، وضع قميصه تحت البنطال.
: عشر دقائق كاملة. يا للهول.
أغلق الباب وراءه، انحدر باتجاه الشارع العام مرتجفًا، رفع بصره نحو السماء، فوجئ بغيمة كبيرة لا تنتمي للصيف. لو كان الوضع طبيعيًا لعــاد؛ فلطالما أوصته أمه..
: احذر البرد.
ترامى الشارع هادئًا، بلا بشر ولا عربات، وفاجأه العدد الهائل من الأعلام التي ترفرف فوق أعمدة الكهرباء وشرفات الدُّور وعلى أبواب المحلات التجارية. كانت كثيرة..
: بحيث لو أن الغيمة هبطتْ بأكملها، فإن قطرة واحدة من مائها لن تصل إليّ!
حاول أن يتذكَّر إن كانت هناك مناسبة وطنية..
: لا، لا يمكن أن أنسى شيئًا كبيرًا كهذا.
وتساءل، فيما إذا كانت المناسبة قد عبرتْ أمس، دون أن يتنبّه، وأن ما يراه فوق رأسه ليس إلّا من مخلّفات علامات زينتها.
: أيكون الاحتفال قد فاتني؟! لا. ثمة احتفال قادم، إذًا، وكل ما في الأمر أنني قد صحوتُ قبل الجميع.
نظر إلى ساعته
: إنها تسير.
قَرَّبها إلى أذنه
: إنها تشتغل.
وحين تنبّه إلى أنه أمضى أكثر من نصف ساعة في انتظار حافلة النقل العام، دون أن تمرَّ، همس لنفسه..
: هذا شيء غريب، لم يحدث من قبل.
لكنه قرر ألّا يفقد الصبر، وأن يمنحها فرصة أخرى كي تُطلَّ من انحناءة الشارع الحادّة، وتتهادى بحمْلها الثقيل، كالعادة، إلى أن تصل إليه..
: فلا يعقل أن عشر دقائق تأخير تقلب العالم، هكذا، رأسًا على عقب.
***
ساعة كاملة مرّت، ولم تُطلّ الحافلة! أمام عينيه راحت الدقائق تومض وتتلاشى، بطيئة، ثقيلة؛ عندها أدرك أن ما يدور حوله، لا ينتمي لفئة الأحداث اليومية التي يعيشها، أو تعيشه.
: لا عربات، ولا سيارات سرفيس، ولا سيارات تكسي، لا جرافات ولا ناقلات دبابات..
وقد شاهد أكثر من مرة هذه الناقلات تمرُّ من هنا، من هذا الشارع بالتحديد، شارع (المحطّة).
: ثمة شيء يحدث، شيء غريب، لا ينتمي لعالم المصادفات.
الدقائق الخمس التالية، قطعت الشكّ باليقين، لكنه فكَّر بإعطاء الحافلة فرصة أخرى..
: لأسباب يمكن اعتبارها شخصية، بشكل أو بآخر، حيث لم يسبـق لها أن تأخرت عليّ إلى هذا الحدّ، وإذا ما حدث أن تأخرت، فلأسباب أقوى منها بالتأكيد.
فيما بعد، لاحظ أن الموقف خال من الركاب تماما، صحيح أنه لم يلحظ في أي يوم أعدادًا كبيرة فيه، إلّا أنه اكتشف غرابة أن يكون الموقف له وحده..
: ولم أكن ذلك الشخص الذي يمكن أن تُكرِّمَه مؤسسة النقل العام بموقف خاص، وفوقه علم يرفرف!
بعد مرور خمس دقائق أخرى، لم يكن باستطاعته التخلّي عن إيمانه بمجيء الحافلة. لكنه عندما لاحظ أن الشارع، أيضًا، خال تمامًا من البشر، وأن المحلات التي تعج دائما بالحركة..
: يخيم عليها صمت القبور..
قرر أن يمشي تلك المائة خطوة التي يعرفها باتجـــاه الشارع العام، حيث باستطاعته هناك، أن يستقلَّ حافلة أخــرى، تمـضي به إلى مجمع سيارات رغدان والساحة الهاشمية..
: وهي كثيرة في الحقيقة.
مشــــــــى....
لكن هواجس ما راحت تنتابه، لا يستطيع تحديدها تماما..
: غير مريحة بالتأكيد..
خاصة، وأن أحدًا لم يظهر أمامه، كما أن صوت العربات الهادر في ساعة كهذه، لم يكن له وجود. وحين أصبح باستطاعته أن يرى الشارة الضوئية عند التقاطع بوضوح تام، أدرك أن في الأمر (إنَّ)؛ فالأضواء الثلاثة: الأحمر، البرتقالي، والأخضر، تنطفئ وتُضيء مجتمعة بتسارع منتظم، في إشارة تحذير لا تخفى..
: ولم يصدُف أن اجتمعتْ هكذا من قبل.
وقف تحت الشارة الضوئية، ألقى نظرة أمامه..
: لا أحد!
على يمينه..
: لا أحـد!
على يساره..
: لا أحــد!
وفكر في أن تكون الحافلة قد تبعته، فالتفتَ خلفه..
: لا أحـــد!!
***
قَطْعُ عشرة كيلو مترات للوصول إلى مبنى الصحيفة، سيرًا على الأقدام، مسألة ليست سهلة..
: رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه.
قدماه لن تساعداه على ذلك..
: أسوأ ما في الأمر أن تخذل نفسك بنفسك، وأن تُحْكِمَ أعضاءُ جسمك قبضتها عليك، كما لو أنها عائدة لسواك! وفي أي عمر؟! في التاسعة والأربعين لا غير. إخْص!
***
نظر إلى السماء..
هاله أن الغيمة الكبيرة التي رآها حينما غادر البيت، لم تزل هناك، كما لو أنها موثقة في الأعالي بخيوط غير مرئية! وتحتها، وعلى طول امتداد الشارع، كانت الأعلام ترفرف، كأسراب من طيور بجع على وشك التحليق!
أعجبه الوصف!
احتمالات كثيرة راحت تعبر خاطره، أحسَّ بفوضاها، حـاول فصل أحدها عن الآخر، كانت متشابكة..
: متشابكة تماما، مثل كتلة شَعْر في قدميِّ دجاجة. هذا يُربك، يربك حقيقة..
صحيح أن الساعة لم تتجاوز التاسعة والربع، وأن ساعة وربع الساعة أمامه، للوصول إلى عمله..
: إلا أنني حتمًا سأتأخر إذا ما سرت إلى هناك على قدمي.
.. وتلاشى قليلًا، ذلك الإحساس العميق بالفخر الذي طالما سكنه،لأنه لم يترك الأحــداث تفاجئه في أي يوم من الأيام، منذ أن بدأ يعي العالم حوله.
هكذا، فمنذ تَسلَّم مهامّه الوظيفية، قرر أن يغادر البيت قبل ساعتين على الأقل من بدء الدوام.
: تكتشف قراراتك الصائبة حين تطلُّ المشكلات برؤوسها.
كان يدرك أن فرصة العمل في الصحيفة، هي الأخيرة، وإذا ما ضاعت، فإنه لن يجدها، حتى لو أمضى بقية حياته باحثًا عنها.
***
في مدينة ضيقة، يمكن أن يحدث أي شيء..
: أزمات مرور، أو كما تدعوها الصحافة (اختناقات مرورية)، فيضانات تغلق الشوارع وتغرقها، بعد زخات مفاجئة من المطر. أما أيام الثلج، فإن المسألة أكثر تعقيدًا، بالنسبة لي على الأقل.
وفكّر، ألا يعدو الأمر أكثر من تحويل مفاجئ للسير؛ وحاول أن يتذكّر إن كان قد دقّق خبرا في اليوم السابق بهذا الخصوص..
: ربما دققه زميلي.
.. فَـتْحُ أنفاق، بناء جسور، إلغاء ميادين وتحويلها إلى تقاطعات، توسيع شوارع بصعوبة، تضييق أرصفة..
: كما لو أن عدد السكان يقل يوما بعد يوم!!
ووضع حواجز حديدية تفصل المشاة عن الشوارع؛ كلها باتت مألوفة تماما، ويومية لسكان العاصمة.
طبعًا، بين ذهابه وإيابه، كانت تنتابه بعض الأفكار الخاصة، أي أفكاره هو، لا أفكار أولئك الذين يُدقّق لهم أفكارهم.
: بما أنهم سمحوا أخيرًا ببناء طابق رابع، فلا حلَّ إلا ببناء أربعة طوابق من الشوارع، بحيث يوقف المرء سيارته الخاصة، أو تنزله الحافلة أمام الطابق الذي يسكن فيه! صحيح، أن خطوة كهذه لا يمكن أن تتمّ بين يوم وليلة، لكن المدينة نفسها لم تصل إلى ما وصلت إليه بين يوم وليلة أيضا.
حين يتأمل الفكرة، يجدها جديرة بتأمله لها..
: وجديدة، بدليل أن أحدًا لم يكتب عنها. لكنني لا أستطيع أن أُحمِّل المسؤولين أكثر من طاقاتهم!
أفكار أخرى خطرت بباله، لكنها أكبر من طاقات البلد..
: رحم الله بلدا عرف قدْر نفسه؛ لأن الدنيا في النهاية -كما قالت المرحـومة الوالدة- أرزاق، وما ينطبـق على النـاس ينطبق على الدول أيضـا.