الجمعة 03 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

سباق الـ«تريند»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا يقبل عقلي أن تُختزل أزمة «كورونا» في كونه فيروسًا صغيرًا، أقام فينا ضيفًا مدَّة قليلة، ثم ارتحل بعد أن أزهق من الأرواح ما أزهق.
ولكنَّ عقلي يتَّسع –ويجب أن يتَّسع- ليتصوَّر أكثر من هذا، فأزمة الفيروس فرضت على كوكبنا تغيُّراتٍ كونيَّة هائلة تتعلَّق بالفيروسات، وباقتصاد الدَّول، وبخطَّة الأولويَّات والإنفاق لدى كلِّ دولة، وبموازين القوى الدَّوليَّة، وبالعلاقات بين الدُّول، وبفاعليَّة المنظَّمات الدَّوليَّة، وبمعايير الأفضليَّة، وبمفاهيم الإيمان.... وغير ذلك.
ولستُ أنكر أنَّ العلماء والمفكِّرين وأصحاب الرُّؤى يحاولون أن يُوجدوا مخرجًا آمِنًا من هذه الأزمات الَّتي خنقت الكرة الأرضيَّة بلا تفريق بين دولها، سواء تلك الَّتي تعدَّ نفسها متقدِّمة، أو غيرها من الدُّول.
وأؤكِّد أنَّ حركة القلوب والعقول، والأفراد والمؤسَّسات، والشُّعوب والحكومات تدبُّرًا وتأمُّلًا وتفكُّرًا مطلوبة من كلِّ هؤلاء، لا سيَّما المتخصِّصين منهم، بحسبانهم أهل الذِّكر كما يعلِّمنا قرآننا، وخاصَّة في هذه الأزمة عابرة القارَّات.
لكنَّ الملاحظ أنَّ صنفًا من البشر ما تزال نفوسهم منتفخة، وذواتهم متورِّمة، لا يرون إلَّا أنفسهم، ولا ينظرون إلَّا إلى ذواتهم، الَّتي أعمتهم عن رؤية واقع خطير، تُحسَب فيه الحركات والخطرات والنَّظرات والكلمات، وتعدُّ عَددًا، فلم يهتموا بما نحن فيه، وبعبارة أدقّ، لم يهتموا بما تعانيه بلادنا، فآثروا أن يغرِّدوا –كما يقال- خارج السِّرب!
أطلَّ علينا هؤلاء الزَّاعقون بألفاظهم، أو بكلماتهم، واقتحموا حياتنا بلا داعٍ ولا مبرِّر، اللهمَّ إلَّا أن تكون مساحة خالية تُركت لهم، فراحوا يقولون عجبًا، فذكَّروني بحكاية الرَّجل الَّذي بال في زمزم، ولـمَّا لامه النَّاس على فعله، قال: أردت أن أُذكَرَ ولو باللَّعن.
والنَّاظر في حال كثير من هواة الصُّعود الصَّاروخيِّ إلى قمم الشُّهرة والإثارة والمتابعة الإعلاميَّة يراهم يعمدون إلى ذلك الأعرابيِّ فيجعلونه إمامًا، ويتَّخذون رأيه منهجًا، فينكرون ما استقر في وجدان الأمَّة جيلًا بعد جيل من علوم مستقرة، وما تعارفت عليه مؤسَّسات علميَّة رصينة، بغية أن يقول النَّاس: هذا فلان المعروف، أو المشهور، متخفِّيًا تحت لقب ما، وما أرخص الألقاب في دنيا النَّاس!
بعض النَّاس من حيث يشعر -وتلك بليَّة- أو لا يشعر -وتلك بليَّة أخرى- ما يزال مصرًّا على أن يكون سببًا في زيادة حدَّة الأزمات، بدخوله في سباق غريب نحو تحقيق الـ«تريند»، بتصريح غريب، أو بكذب مريب، أو بإفتاء عجيب، ولا بأس بهذا كلِّه وأضعاف أضعافه، والمهمُّ أن يبقى متصدِّرًا سباق الـ«تريند»، وأن يظلَّ محطَّ الأنظار، أو ما عبَّر عنه أهل الله بـ«حبّ الرِّياسة والظُّهور والشُّهرة».
وهذا مرض - والله – خطير، وتبعاته أخطر، واسألوا أيُّها القرَّاء الكرام قنواتنا ومواقع التَّواصل عن كميَّة الفيديوهات، والتَّصريحات، والفتاوى، والإشاعات فستجدون سيلًا كبيرًا، لكنَّ عزاءنا أنَّ الله عزَّ وجلَّ- قال: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ»، وتلك سنَّة الله في عباده.
إنَّ ما تمرُّ به الكرة الأرضيَّة، لا سيَّما بلادنا يوجب التَّجرُّد عند الكلام والتَّصريح، ويفرض النَّظر للعواقب عند الإفتاء والتَّوجيه، لكنَّ بعض أصحاب اللِّسان أو الأقلام يصرُّ على أن يكون رأسًا بأيِّ طريقة، ولو بالباطل.
وقد تخدعُ بعضَ هؤلاء المتصدِّرين أنفسُهم، بدعوى هداية النَّاس، وإرشادهم إلى الحقِّ، فتراهم يدعون النَّاس إلى أن «يكونوا هم» فيختاروا من الآراء ما أحبُّوا دون تقيِّد برأي منها، ودون أن يستجيبوا لمنهج أحد، وفي الوقت نفسه يدعون النَّاس إلى آرائهم هم ومنهجهم هم، فعجبا لهم!
والغريب في «حبُّ الرِّئاسة والظُّهور» أنَّه لا يقتصر على مجال بعينه، بل يشمل الدُّنيا والدِّين، فترى البعض يتكلَّمون في مجالات الاقتصاد، وفي السِّياسة، وفي الطِّبِّ، وفي غيرها من مجالات الحياة، وتراهم يتكلَّمون كذلك في علوم الدِّين: فقهها وحديثها وتفسيرها وغيرها، وبينهم وبين ذلك كلِّه بُعد ما بين المشرق والمغرب.
ومرض «حبُّ الرِّئاسة وطلب الشُّهرة» من أخطر الأمراض الاجتماعيَّة الَّتي تصيب المجتمع، ويزداد خطرها ويستفحل حين يصاب بهذه الآفة الخطيرة الدُّعاة إلى الله، والمنسوبون إلى العلم –خاصَّة العلم الشَّرعيّ- الَّذين يُفترض فيهم أن يكونوا دليلًا للنَّاس إلى الخير والرَّشاد.
إنَّ حبَّ الرِّئاسة والظُّهور شهوة خفيَّة في النَّفس تقدح في الإخلاص، وتخالف التَّجرُّد لله -سبحانه وتعالى- فضلًا عن أنَّها تحلق الدِّين، وتضيع الأعمال.
ومن أقبح المشاهد أن ترى إنسانًا يتجرَّأ على عِلْمٍ، أو على مؤسَّسة، فيرفع رأسه مشرئبًا لخلق الله رجاء أن يُرِي نفسه للنَّاس، ولا همَّ له سوى بناءِ الأمجاد الموهومة، أو الصِّراع على الأموال الزائلة، أو المناصب الفانية، وليته يعلم أنَّه بقدر رفعته وجرأته في تلك المقامات بقدر سقوطه وهبوطه في أعين الصَّالحين من الخلق.
يا أيُّها العقلاء، لو كانت الشُّهرة منقبة حقيقيَّة تتشوَّق لها النُّفوس الكريمة لكان أحقَّ النَّاس بها أنبياء الله ورسله، وهم سادة النَّاس، وقد بعث الله منهم أكثر من ثلاثمائة رسولٍ، وأكثر من مائة ألف نبيٍّ كما نُقل، ورغم منزلتهم العالية لم يحفظ القرآن من أسمائهم سوى أسماء خمسة وعشرين رسولًا لا غير! فهل غياب أسمائهم يضعف منزلتهم؟
إنَّ بولة الأعرابيِّ في بئر زمزم لا تختلف كثيرًا عمَّا يصدره إنسان من إفتاءٍ غريب، أو يلقيه من تصريحٍ عجيب، أو يتَّبعه من منهج غير مألوفٍ؛ ولذا أتساءل: هل سنظل نتحمَّل تبعة بولة الأعرابيِّ النكدة في مشاربنا أبد الدَّهر؟