أيام عصيبة يعيشها العالم، منذ أكثر من ثلاثة أشهر مضت، يخيم القلق والخوف بظلاله على البشر حكام ومحكومين، أغنياء وفقراء، مرضي وأصحاء. فالجميع أصابه الذهول ووقف عاجزا أمام كائن لا تراه العين المجرد، قد يكون متناهي الصغر لكنه أقوي من أكبر جيوش العالم، رضخت أمام كافة القوي، وتساوت كل دول العالم في العجز الصامت، واختفت الطموحات والخطط التوسعية، وسادت أيدولوجية عالمية واحدة لتحكم كافة دول العالم، متقدمة كانت أو نامية، إنها تلك الأيدولوجية التي تستمد أصولها ومبادئها من أهم وأعظم قيمة إنسانية، إنها أيدولوجية الصراع من أجل البقاء.
لقد بدأت دول العالم أجمع في اتخاذ كافة تدابيرها من أجل البقاء، وأُعلنت استراتيجيات وخطط مواجهة الفيروس، دخل العالم في صراع، ولكنه من نوع جديد، صراع قد تكون نهايته الهزيمة المحققة للكثير من الدول، قد تدرك الشعوب غاية هذا الصراع، أو لا تدرك، وسواء كان هذا أو ذلك فالنهاية مخيفة، لا تدفعهم إلى التفكير، وإنما تدفعهم إلى سرعة الفعل، من أجل البقاء.
ورغم ذلك مازالت قواعد البقاء هي الحاكمة، والموجهة لصراع بدأت تتلاشي فيه مشاعر الرحمة لدي الكثيرين، ليس بفعل شيء ما داخلهم، وإنما بفعل الأمر الواقع الذي فرضته الأحداث عليهم، لقد رأينا الطبيب الذي وقف عاجزا عن أداء رسالته السامية، عندما كان عليه أن يختار من الأحق والأجدر بجهاز التنفس الصناعي من مصابي فيروس كرونا، الطفل الذي لازال في مقتبل العمر، أم الشاب الذي يملك الفرصة الأكبر للشفاء، أم الشيخ الذي هانت قوته ويحتاج إلى من يمد إليه يد العون، فالثلاثة يتصارعون من أجل البقاء. وكذلك رأينا العامل الذي رغم كل شيء ذهب إلى العمل لكسب الرزق، لا يستطيع البقاء في الحجر لتجنب العدوي، فإما أن يذهب للعمل وإذا به يصاب بالفيروس اللعين، أو لا يذهب فلا يجد قوت يومه، وفي كلا الحالتين عليه أن يواجه مصير الموت، ولكن عليه أن يختار ليبقي، هل يصارع الفيروس من أجل الانتصار على ضيق اليد، أم يصارع ضيق اليد من أجل الانتصار على الفيروس.
ورأينا أهل القرية الذين يرفضون دفن ابنة قريتهم بمقابر القرية، خوفًا من نقل عدوي فيروس كرونا إليهم، دون حتى أن يتحقق أي منهم سبب وفاتها، فهم يصارعون من أجل البقاء، دون تفكير في منطقية الأشياء، رافضين معرفة الحقيقة، أو الاستماع إليها، مجردين من أي عواطف أو مشاعر أو رحمة.
أيام فاصلة في حياة البشرية جمعاء، لا يحكمها مبدأ البقاء للأقوى، وإنما يحكمها مبدأ البقاء للأصلح، وشتان بينهما، فقد تتغير خريطة العالم في الأشهر المقبلة، ربما يكون العلم والطب هو السلاح الأعظم من أجل الخروج من سياق أيدولوجية الصراع من أجل البقاء، إلى أيدولوجية البناء من أجل البقاء.
ليعود العالم إلى نقطة البداية، ولتتلاشي كافة الحضارات التي أصبحت مظاهر الزيف والجدل والادعاء والتسويف والاحتيال والتلاعب جوهر تأسيس كياناتها الهاوية، لتبدأ البشرية من جديد في عالم تسوده القيم النبيلة؛ لا نجد فيه مدير فاسد وموظف يتعرض للقهر، لا نجد فيه مدرس جشع وطالب مغلوب على أمره، لا نجد فيه من يضلل رجال الدولة ومن يتعرض للظلم جراء هذا التضليل، لا نجد فيه من ترك أرضه باحثًا عن وطن جديد.
* نائب رئيس جامعة بني سويف ورئيس لجنة الشهداء