توجد ثمة تشابهات وتقاطعات بين ما حدث من انتشار «الكوليرا» في مصر في العام ١٩٤٧، وبين انتشار «الكورونا» في العام ٢٠٢٠؛ فناهيك عن التشابه بين حروف الكلمتيْن، إلا أن الفيروس في الحالتيْن لم يكن مصريًا، بل جاء إلى مصر من خارجها، ففي حالة الكوليرا جاء الفيروس من الهند مع الجنود الإنجليز إبان كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني، وفي حالة الكورونا وردنا الفيروس من الصين وإيطاليا وبعض الدول الأخرى.
لاحظنا أن الصين نفسها عندما تفشى الفيروس في مدينة «ووهان» لم تغلق المدينة مباشرةً، بل سمحت لملايين البشر بمغادرة المدينة إلى وجهاتهم المختلفة عبر العالم، وتذهب التقديرات إلى أن خمسة ملايين مسافر قد غادر من الصين عامةً والمناطق الشرقية في الصين حيث تفشى الفيروس إلى دول العالم المختلفة، وربما يكون هذا هو السبب المباشر لانتشار الفيروس في مختلف أنحاء العالم.
لقد نسينا تجربتنا في العزل الصحي للقاهرة ومنع الدخول إليها وقت انتشار وباء الكوليرا عام ١٩٤٧، فليس شرطًا أن تعزل المناطق الموبوءة، بل يمكنك عزل المناطق السليمة لضمان عدم تسرب الفيروس إليها أو تفشيه فيها، وما ينطبق على القاهرة يمكن أن ينطبق على الإسكندرية والوجه القبلي، وكذلك العاصمة الإدارية الجديدة.. إلخ.
وإذا كانت «الكوليرا» في مصر في فترات انتشارها مرتبطة بشح السلع وارتفاع أسعارها في الأسواق، إلا أن «الكورونا» كانت في مصر لها تجربة مختلفة؛ ففي الوقت الذي شحت فيه السلع في أسواق دول العالم، سواء في إيطاليا أو فرنسا أو الولايات المتحدة أو بريطانيا، إلا أن الأمر كان مختلفًا في مصر؛ فمما يحسب للحكومة المصرية أنها تحرص على مخزون استراتيجي من السلع لا يقل بحالٍ عن الأحوال عن ستة شهور، كما يحرص الرئيس بصفة دورية على مراجعة هذا المخزون الاستراتيجي والتوجيه بتعزيزه على الدوام وإتاحة السلع للمواطنين بأسعار مناسبة. ومن هنا لم يشعر المواطن المصري بأي أزمات في السلع في ظل أزمة انتشار الوباء.
ورغم أن الكوليرا في بر مصر «المحروسة» لم تكن أبدًا مقرونة بالحب كما كان الحال في رواية جابرييل جارسيا ماركيز «الحب في زمن الكوليرا"، بل كانت مرتبطة بالموت والجوع والحزن والجنائز وبالسلب والنهب وقلة الأرزاق وشح الأقوات وندرة الوظائف وانتشار البطالة، فإن ما نعيشه في زمن «الكورونا» في العام ٢٠٢٠ يعد مختلفًا تمام الاختلاف، فثمة حالة من الحب تعتمل لدى الجميع وعلى كل المستويات.
لا شك أن أولي حالات الحب هو حب الحياة والخوف من الموت، تجد هذا الخوف لدى الكبير والصغير والأمير والخفير والرجل والمرأة والأمريكي والبريطاني والمصري والإسباني، فقد كان هذا الفيروس «ديمقراطيًا» أكثر من اللازم، فلم يترك أحدًا بعيدًا عن مخاطر الإصابة به، تساوى في ذلك مواطنون بسطاء عبر العالم من آحاد الناس، وأصيب به ملوك وأمراء ورؤساء حكومات ووزراء صحة ودفاع وفنانون وجنرالات ورياضيون وأطباء. وقد أصاب هذه الشعوب بالهلع لأن الفيروس وصل لأناسٍ في قصورهم المحصنة ومعازلهم المؤمنة والمعقمة، فما بالكم بمن يعيشون حياةً لا تتسم بالنظافة أو العزل أو التعقيم، وإذا كان الفيروس لم يستثنِ وزراء الصحة والأطباء فما بالنا بالمرضى العاديين.
كل هذه المؤشرات جعلت الناس تخشى على حياتها وعلى حياة أحبائها، وخاصةً عندما ظهر «بوريس جونسون» رئيس الوزراء البريطاني في الأيام الأولى لانتشار الفيروس في بريطانيا ليقول للبريطانيين «ودعوا أحباءكم» لأن الفترة التي تلت تفشي الفيروس وعزل المدن والمناطق والحجر المنزلي قد لا يتيح للناس وداع الأحبة والأهل والأصدقاء، وهو ما حدث في إيطاليا مثلًا، التي مات فيها الآلاف جراء الفيروس دون نظرة وداع واحدة.
وقد نفضت أزمة فيروس «كورونا» الغبار عن القيم الإنسانية النبيلة التي كادت تتلاشى لتبقى مشاعر الحب والإنسانية بين الشعوب التي أدركت أنه يجب عليها الاصطفاف لمواجهة حرب هذا الفيروس، لقد تأثرت كثيرًا بالمشاعر الإنسانية العابرة للحدود والقارات والتنظيمات والتجمعات الإقليمية؛ فلم تجد إيطاليا مساعدات من الاتحاد الأوروبي بقدر المساعدات الواردة من خارجه، سواء من مصر أو روسيا الاتحادية أو الصين. لقد دمعت عيناي وأنا أرى طائرة تحط في إيطاليا من كوبا وثانية من بيلاروسيا تحملان أفواجًا من الأطباء الذين ذهبوا ليقفوا مع زملائهم الإيطاليين في الخط الأول لمواجهة الفيروس. وقد راودني الشعور نفسه عندما شاهدت كيف قضى ثلاثة من الأطباء العرب نحبهم وهم على خط المواجهة مع الفيروس في بريطانيا.
لم تعد العبرة بالاسم أو الجنسية أو النوع أو اللون أو الدين أو العرق بالنسبة للأطباء، بل العبرة بالحب.. حب الحياة وتقديس الإنسانية وعشق المهنة، حتى لو كان المقابل هو التضحية بأنفسهم لإنقاذ حياة مريض بسيط من آحاد الناس، لقد صدق هؤلاء الأطباء ما عاهدوا الله عليه ويطبقون قسم أبقراط كما ينبغي أن يكون دون أدنى اعتبار للجوانب المادية والطموحات الوظيفية.
إن جيوش العالم البيضاء المتمثلة في العلماء الباحثين عن الأمصال والأدوية والأطباء والممرضات والصيادلة وإخصائي التحاليل والأطقم الصحية الأخرى هى التي تقف في الصفوف الأولى للدفاع عن الإنسانية جمعاء، ويتعرضون لما قد يتعرض له الجنود المقاتلون على جبهات القتال، فتحيةٌ لهم من كل شعوب العالم الذين يقدرون تضحياتهم.. بنحبكم بجد..!.