يصعب الكاتب على نفسه إذا مسه الحزن وهو مطالب بكتابة مقال، ليس من العقل أن توجه أحزانك إلى قارئ برىء، ولكن صدمة كورونا وتوابعها لم تترك للواحد منا حتى ترف التأمل، الأزمة أوسع وأكبر من أن تتحملها أرواح اعتادت الغناء للأمل، لست محبطا ولكننى حزين بعمق، فعندما يصل العجز بالإنسان إلى فشله في السؤال عن أحوال جيرانه ويغلق الباب جيدا مشغولا بالديتول والكلور، وقتها يكتشف الواحد منا كم هو أنانى وصغير.
أيام صعبة قضيتها قبل الحظر في مدينتى الإسماعيلية وهى المدينة النموذج لشراسة القطاع الخاص.. قابلت واستمعت وتألمت من حكايات مريرة عن الذين انقطع دخلهم اليومي. لا لسبب ولكن كل جريمتهم هى أنهم عمال باليومية. الدولة مهما أوتيت من قوة لن تستطيع الوفاء باحتياجات الناس، الخريطة بطول مصر وعرضها ومن تم تسجيلهم بالقوى العاملة للحصول على دعم يقدر بخمسمائة جنيه لا تمثل نسبتهم الرقم الحقيقى لمن تعطلوا عن العمل.. انظر في كل اتجاه عمال البناء وتنويعات المهن المختلفة داخلها من نجار إلى حداد إلى نقاش.. انظر إلى عمال الخدمات بالمقاهى والمطاعم. انظر إلى من كانوا يتحايلون على الحياة ببضائع فقيرة للبيع على الأرصفة.
لست محبطا ولكننى حزين.. ويرجع عدم إحباطى إلى اقتناعى بالصيغة التكافلية الإنسانية المغروسة في وجدان الشعب المصرى.
أكتب محرضا نحو المزيد من المبادرات، كرتونة التموينات التى هى سبة في زمن الانتخابات هى الآن بمثابة ضرائب واجبة التحصيل من الكل إلى الكل.
كورونا ذلك الخبيث الساذج.. القاتل الغشيم عابر الطبقات والحدود يعيد تشكيل العالم حتى أن التاريخ سوف يكتب عن العالم ما قبل كورونا وما بعد كورونا.. النظريات سوف تتغير مركزية الدولة سوف تستعيد مجدها.. لا أقول إن مجتمعا اشتراكيا سوف يولد بعد تلك الأزمة ولكننى أقول إن الاتجاه نحو الإنسانية المجردة التى لا تنحاز إلى دين أو لون أو عرق سوف تتجذر ومن المهم ألا تصيبنا آفة حارتنا وهى آفة النسيان.
الكاتب يواصل الطرق على صفيح القضايا.. يواصل إشعال الذاكرة حتى لا ننسى تلك الأيام التى بكى فيها الجميع من أجل الجميع.
المتابع للمبادرات الشعبية التى انطلقت مع كورونا وما قبلها سوف يلمح أن عمادها الرئيسى هو الشباب غير المؤدلج.. شباب قد تراهم في الطريق ولا تحسن تقييمهم ولكن عندما تنزل النازلة يشمر كل واحد منهم عن ساعديه مقتحما الخطر.. حدث ذلك مع إعصار التنين قبل أسبوعين.. وها هو يتكرر مع أزمة كورونا.. فرق التطهير في الشوارع.. بخاخات الكحول في الأيادى الرشيقة ترش أيادى العابرين.. حتى إن وزارة الصحة عندما طلبت متطوعين نهاية الأسبوع الماضى لم يتحمل سيستم الموقع الإلكترونى كثافة التسجيل.. سيقول أحدكم.. طالما الحال هكذا لماذا صدمتنا في بداية مقالك بسحابة الحزن؟ الإجابة هنا سوف تفتقد إلى المنطق ولكنها تعتمد على تاريخ هذا الشعب.
نحتفل بأحزاننا كثقافة موروثة من أعمق نقاط الصدق فينا ويبقى الوجدان مجروحا مهما تقادم الزمن وسلسلة الأحزان التى عاشها الشعب المصرى لا تعد ولا تحصى من حروب وجبهات ونزيف الاقتصاد إلى انفتاح سداح مداح وقطط سمان إلى فساد استطاع القضاء على أجيال متعاقبة ومنهم جيلى أنا الذى عاش مثل وتر مشدود تهزمه أمطار السماء إذا زادت ويؤلمه مشهد الطبق الفارغ في بيوت اهالينا.. ولسعة فيروس كورونا للإنسان البرىء في أى ركن من المعمورة.
سوف نواصل حياتنا في رضا عن أنفسنا إذا استطعنا أن ننجح في امتحان التضامن المفروض الآن.. سوف نواصل حياتنا لنترك ذكرى طيبة لأبنائنا وهى أننا لم نهرب من المواجهة واستطعنا إغاثة ملهوف وتجفيف دمعة من عين تحاول البطالة كسرها.