هناك دائما شىء جيد خلف كل شىء ظاهره سيئ! هكذا أعتقد وهكذا يتضح بعد أن يزول غبار الأزمات والضباب حولها، هذا الوضع الغائم الذى نعايشه في زمن كورونا، تتكشف تدريجيا جوانبه المضيئة.
الكثير من الكتب التى لا تقدر بثمن أتيحت عبر المواقع الإلكترونية لأكبر مكتبات العالم، المتاحف الشهرية وأكبر المزارات تقدم جولات افتراضية تشجيعا لكل من على ظهر الكوكب للبقاء في منزله، حفاظا على بقاء البشرية!
هذه الدينامية الحضارية التى نعايشها الآن والتى تفوق قدرتنا البشرية على الاستيعاب أدت لظهور سلوكيات وأنماط ومنتجات ثقافية لم تكن متاحة لنا في عصر ما قبل كورونا!. نحن بصدد التوجه لمستقبل ليس له مثيل «عصر ما بعد كورونا» تحالفات جديدة، وشعبوية متوغلة تنهمك فيها دول العالم، فالكل في تسابق لحماية شعبه، مصطلحات سوسيولوجية جديدة تفرض نفسها «التباعد الاجتماعي»، و«المسافة الاجتماعية»، «العزلة»، «العالم الثالث» و«العالم الأول»... وغيرها من المستجدات التى طفحت على سطح العالم مع كورونا المستجد.
في ظل ما يحدث حولنا تعاد صياغة الطبقات الاجتماعية وفقا للظروف والتحديات الاقتصادية المقبلة، والأهم تلاشى التمايز الثقافى بين الطبقات، والتى تحققها عدالة الإنترنت في تحدى كبير لـ«البرجوازية الثقافية».
فمع مبادرة مثل «الثقافة بين يديك» التى تقدمها وزارة الثقافة المصرية بقيادة الوزيرة د. إيناس عبدالدايم تماشيا مع نهج كبرى المؤسسات الثقافية العالمية من مشارق الأرض ومغاربها التى تبث روائعها دون مقابل، لم يعد عليك أن تدفع تذكرة باهظة لحضور أوبرا على مسرح أوبرا ميتروبوليتان بأمريكا، ولا أن تذهب إلى مسرحية تعرض على مسرح برودواى أو سان بطرسبرج لمشاهدة استعراضات لكبرى الفرق الفنية، بل كل ما عليك الجلوس وتصفح الإنترنت. حتى مواقع مثل أمازون قدمت الكثير من الكتب مجانا.
الآن يمكن لفرد من الطبقة الفقيرة والمتوسط أن ينمى رأس ماله الثقافى دون الحاجة إلى وجود رأس مال اقتصادي، فتلك السلع الثقافية باتت متاحة للجميع. وقد رأى الفيلسوف الفرنسى بيير بورديو الذى انشغل فكريا بسوسيولوجيا الثقافة أنها ليست منفصلة عن سوسيولوجيا التعليم وقدم إسهاما في تفسير مصطلح «رأس المال الثقافى» و«رأس المال الاجتماعي». ففى الوقت الذى كانت فيه الطبقة العاملة قبل عصر كورونا تصارع من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية فإن عاداتها «الهابيتوس» سوف تتغير فهى أيضا الآن تلبى احتياجات ثقافية لم تكن متاحة من قبل، هذه العادات الثقافية الجديدة الناتجة عن نهم غير مسبوق للثقافة ترافقه عدالة ثقافية في إتاحة المنتجات والسلع الثقافية سوف ينتج عادات جديدة للذوق، ما سيؤثر- في رأيي- على التراتبية الثقافية.
إن تعبير الثقافة دائما ينطوى على جانب نخبوي، لكنه ربما لن يعد كذلك. إن التغيرات في سلم الأولويات والحاجات التى يمر بها العالم الآن وبالتالى طبقاته الاجتماعية التى جميعا تسعى نحو تأمين الحاجات الاقتصادية أولا سوف ينعكس بلا شك على صناعة الثقافة وكيف تصنع؟ ومن يصنعها؟ ولمن؟
التغيرات التى ستلم بصناعة السينما والموسيقى والأزياء الراقية وصناعة النشر والكتب كل هذه المنتجات والسلع التى تأثرت جراء كورونا سوف تتكشف مصائرها خلال المستقبل القريب.
الشق الآخر للعدالة الثقافية هو تلاشى القيود على الإنتاج الثقافي، بفضل الإنترنت فباتت هناك إمكانية نشر المنتج الإبداعى دون قيود، دون وساطة ومحسوبية يمكنك قول ما تريد أو نشر ما تكتبه دون قيد، بل ويمكنك أن تصل لجمهور لا تحده حدود جغرافية.
بالطبع العدالة ستظل مفهوما طوباويا لن يتحقق، كما تقول المقولة الشائعة «الحياة بطبيعتها ليست عادلة» وتظل العدالة الحقيقية هى عدالة السماء! فأيا كانت التغيرات التى يمر بها عالمنا لن تنصف الفقراء ولن تنصف الموهوبين الحقيقيين، لكن السؤال المحورى هنا والذى يشغلنى خاصة في ظل المقاربات الفكرية المطروحة حاليا حول كورونا والعولمة، فيما إذا كان كورونا سيقضى على الاختلافات الثقافية والحضارية التى لم تفتتها العولمة؟ فإذا ما استمر الوضع الحالى فإن الحضارات ستتلاشى أمام الحاجة الرئيسية والوحيدة والبدائية الطاغية حاليا «الرغبة في البقاء»!!.