السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الحب فى زمن الكورونا «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما زال كبار السن الآن يذكرون وباء الكوليرا الشهير الذى ضرب مصر فى العام 1947؛ فقد كانت والدتى المولودة عام 1936 تبلغ من العمر أحد عشر عامًا، وكانت مخطوبة لأبى فى ذلك الوقت المبكر كعادة أهل الريف، وتذكر جيدًا تفاصيل ذلك الوباء، والذى انتقل من الهند عن طريق بعض جنود الاحتلال الإنجليزى الذى كان يجثم على تراب هذا الوطن فى تلك الفترة، وكانت الهند هى الموطن الأصلى للكوليرا والفقر المدقع فى آنٍ واحد. 
أيًا كان الأمر، فقد انتقل الوباء إلى مصر عن طريق اثنيْن من الجنود فى معسكرات الجيش الإنجليزى فى «التل الكبير» بالإسماعيلية على حدود محافظة الشرقية، وكان هذان الجنديان عائديْن من الهند، وانتقلت العدوى بعدها إلى اثنيْن من الفلاحين فى قرية «القرين» التابعة لمركز فاقوس بمحافظة الشرقية، وتم تشخيص المرض وقتها على أنه تسمم غذائي، لكن بعد يوميْن ساءت حالة الإصابتيْن ونُقلتا للمستشفى العام، ولم يمض سوى يوميْن حتى ماتت سبع حالات، فانتفضت وزارة الصحة وأرسلت فرقًا طبية على أعلى مستوى، لتكتشف هذه الفرق الطبية على الفور أن تلك الحالات مصابة بمرض الكوليرا.
وتعاملت الدولة المصرية- وفى القلب منها الجيش والشرطة- بكثيرٍ من الحرص والوعى لمحاصرة الوباء الملعون؛ فقد قامت قوات الجيش والشرطة بمحاصرة قرية «القرين»، ومنعت الدخول إليها أو الخروج منها، وقامت بعزل الحالات المصابة فى عنابر معزولة عن سائر عنابر المستشفى وشيدت معسكرات خاصة لعزل الحالات المصابة، وتعقيم منازل المصابين بعد عزلهم والتحفظ على المتعلقات الشخصية لهم لحماية سائر أفراد الأسرة، وزيادة نسبة الكلور فى المياه العمومية، وتوصيل عربات مياه معقمة للمناطق الموبوءة التى لا تتمتع بخطوط مياه صحية، ومنع الاستحمام أو غسل الملابس فى الترع نهائيًا.
كما قامت قوات الجيش والشرطة بمنع أى فتحة أو مصب يصب مياه أو أى مخلفات فى الترع والمصارف، وإزالة القُلَل والأزيرة وأى وسيلة للشرب فى الأماكن العامة والطرقات فى القرى المُصابة، ومنع حمامات السباحة العامة، وإغلاق العيادات الخارجية فى المستشفيات فى المناطق الموبوءة، ومنع بيع أى طعام أو شراب يتم تحضيره أو إعداده بالأسواق وأماكن التجمعات أو المطاعم، وتم التنبيه بأن يقوم كل واحد بتحضير طعامه فى بيته، ومنع انتقال الخضروات والفواكه بين المناطق إلا بعد غسلها بالكلور المائي، ونقل القمامة فورًا، ورش القرى باستمرار بالمبيدات الحشرية للقضاء على الذبابة الناقلة للمرض.
كما قامت قوات الجيش والشرطة بعزل الوجه القبلى عن الوجه البحرى ووضع المتاريس على مشارف العاصمة القاهرة من اتجاه محافظة القليوبية عن قرية مسطرد، ومن أراد الانتقال عليه أن يمكث 6 أيام تحت الملاحظة، وتم تطبيق الحظر على كل وسائل المواصلات بما فيها القطارات، وعدم الانتقال بين مدينة وأخرى خصوصًا من أراد أن يدخل المدن الكبرى مثل القاهرة إلا بتصريح من وزارة الصحة عليه صور الأشخاص المصرح لهم. ولم يكن وقتها يوجد علاج إلا الفاكسين ولم يكن يوجد كمية كافية، فتم قصر استعماله للمرضى الفعليين والفريق الطبى، ثم تم بعد ذلك استيراد المصل وإعطائه لسكان المناطق الموبوءة والمشتبه فيها، مما أدى إلى القضاء على الوباء، وكانت إجمالى الإصابات بهذا الوباء 20805 مات منهم 10276، ولولا جهود الجيش والشرطة ووزارة الصحة وتعاون الأهالي، لبلغ عدد الضحايا أضعاف أضعاف هذا العدد. 
وكانت أول خريطة تنشرها صحيفة «أخبار اليوم» منذ بدء صدورها فى 11 نوفمبر 1944، هى تلك الخريطة التى نشرتها فى عددها الصادر يوم السبت الموافق 27 سبتمبر 1947 عن مسار انتشار وباء الكوليرا، وتوضح الخريطة كيف نشأ الوباء فى معسكرات الجيش بالتل الكبير، ثم كيف امتد الوباء إلى أقرب قرية مجاورة وهى قرية «القرين» بمحافظة الشرقية ليمتد بعد ذلك إلى بلبيس بالشرقية، والتى تقع بالقرب من حدود محافظة القليوبية ليواصل الوباء انتشاره بطول ترعة الإسماعيلية إلى قرية أبوزعبل ثم قرية مسطرد على حدود القاهرة، حيث وضعت المتاريس لمنع دخول المُصابين بالوباء إلى القاهرة. ورغم ذلك استطاع الوباء التسلل إلى القاهرة، ولولا الإجراءات الصحية لحصد مئات الآلاف من البشر. 
وقد جسد المخرج الكبير الراحل يوسف شاهين انتشار وباء الكوليرا فى العام 1947 فى فيلمه «اليوم السادس» الذى أنتجه وأخرجه وكتب له السيناريو والحوار عن رواية بالعنوان نفسه للكاتبة الفرنسية «أندريه شديد». يحكى الفيلم قصة سيدة «صِدّيقة» وصراعها مع مرض ابنها بالكوليرا، وذلك أثناء حكم الملك فاروق. ويصف الفيلم بطريقة درامية كيف أن كل من حولها يختفى بفعل هذا الوباء. وتحاول إخفاء ابنها عن أعين الناس لمدة ستة أيام، والتى يفترض بعدها أن ينجو ابنها من المرض، وكانت محاولة إخفاء ابنها خشية أن يبلغ عنه أحد السلطات التى كانت تجمع مرضى الكوليرا فى مخيمات لا يعود منها أحد على حد وصف الفيلم.
.. وهكذا فالكوليرا فى بر مصر «المحروسة» لم تكن أبدًا مقرونة بالحب كما كانت الحال فى رواية جابرييل جارسيا ماركيز «الحب فى زمن الكوليرا»، بل كانت مرتبطة بالموت والجوع والحزن والجنائز وبالسلب والنهب وقلة الأرزاق وشح الأقوات وندرة الوظائف وانتشار البطالة، أما العلاقة بين ما حدث فى «الكوليرا» فى العام 1947 وما نعيشه فى زمن «الكورونا» فى العام 2020 فهذه قصة أخرى نرويها فى المقال التالى.. انتظرونا..!.