من أهم ما كشفت عنه أزمة فيروس «كورونا» في البلاد، هذه الروح من التعاون بين الناس، وحالة الاستجابة لتفادي الخطر، فعلى الرغم من بعض السلبيات، ظهرت حالة الوعي بين الناس، والذين اختفوا من الأسواق العامة، والظهور بعد الساعة السابعة مساء.
هذه الظاهرة لم تقتصر على مدينة معينة، أو قرية هنا أو هناك، بل كانت ظاهرة عامة في مختلف المدن والقرى في الصعيد وبحري، وفى المنتجعات والمشاتي، وفى الشوارع والطرقات والأزقة.
وأعتقد أن الناس أدركت حجم الخطر، الذى لمسته السيدة البسيطة في السوق الشعبية، والتى خرجت مبكرًا تبحث عن مصدر رزقها، وهى مرتدية الكمامة على وجهها والقفازات بين أصابعها، وهذا ما فعله سائق التاكسي، والميكروباص، وبائع الخضار والفواكه، وسط حالة من الوعى بالخطر.
وظهرت مصر بوجه جديد كليًا، وبأخلاق أهلها الطيبين، تلك الأخلاق التى تختفي، لكنها لا تموت وقت الحاجة وعند الأزمات، وتكاد تختفى حالة استغلال المواصلات العامة، وظاهرة تقطيع «التوصيلات»، بين حلوان والتحرير، والمطرية ورمسيس، والهرم والجيزة، والتحرير ونهاية فيصل، والجامعة والسلام.
لم تظهر الشكاوى اليومية من الناس، وكأن هناك حملة تطهير غسلت الخلفيات السيئة، بين البشر، قد يكون الخوف من نهاية الكون، أو الخوف من الموت وما بعده من حساب، والسؤال أمام المولى تعالى، وهذا فيه جزء من الصحة، ولكن المؤكد أن البشر فيهم حاجة حلوة، وأشياء مميزة، تختفى أحيانا لكنها بداخلهم، ويتوارثونها من جيل إلى جيل، وتظهر عند الشدائد.
صحيح أن هناك من استغلوا الأزمة وما زالوا يستغلونها، باحتكار السلع وحبسها، لتحقيق أرباح فوق العادة، واستغلال أزمات البشر، وهؤلاء حتما قِلة، إلا أنهم لا يطمسون هوية ونقاء وبياض قلوب الآخرين من أكثرية البشر، فى مصرنا وبلداننا العربية، وحتما لهم نهاية، لتبقى هذه الروح الحلوة من الناس الطيبة، كحلاوة مياه النيل، وبهجة ضحكة طفل لم تلوثه الحياة.
ظهر المصريون في هذه الأيام بسماتهم الحقيقية، فعندما دقت ساعات إخلاء المولات والمحلات، والمقاهي، ودور السينما، وغيرها من الأماكن العامة، هب الجميع في هدوء نحو منازلهم، ليلزموا بيوتهم.
وفور الإعلان عن إغلاق المساجد والكنائس، لم يتوان المصلون عن الالتزام بالتعليمات، وتم غلق أبواب المساجد والكنائس، رغم تأثيره الصعب على كل الناس، مسلمين ومسيحيين، وقال أحد المصلين، «نغلق لكى نلتقى بعد ذلك، ولا يمكن أن نفتح الأبواب، لنفترق ويختفى اللقاء».
وعلت أصوات الميكرفونات في كل الأرجاء من صلاة العصر والمغرب تنادى على الناس «صلوا في بيوتكم» لحماية بعضهم، و«صلوا في رحالكم» حفاظا على حياتكم، واستوعب الناس صعوبة النداء، رغم مرارته على الجميع، إلا أن الوعى أصبح أكثر تقدما بين جمهور المجتمع.
لم تختلف الصورة هنا وهناك بين حى شعبى وحى راقٍ، بين مدينة أو قرية، بين فقير أو غني، الكل جمعتهم حالة واحدة، هى الحفاظ على حياتهم وحياة من حولهم، وأصبح ارتداء الكمامات، والقفازات من الأمور العادية بين الناس، لا قلق ولا خوف منها، بل هناك من تجده يحفزك في الشارع وفى أماكن العمل لارتداء مثل هذه الأشياء، مبررًا لك طلبه بأنه إحدى أدوات الحماية والوقاية للنفس ولمن حولك.
وفى بادرة لا تخلو من لمسات التعاون والتكافل، برزت حملات دعم غير القادرين، خصوصا من أصحاب العمالة اليومية، وكفالة عشرات الآلاف منهم، وفى الجانب الآخر شكل الأطباء حائط حماية للناس، بتشكيل مجموعات في كل المدن والمحافظات لتقديم الرعاية المجانية لأهالى مناطقهم، في شكل يعكس رقة وطيبة أهل البلاد.
وعن الدروس الخصوصية الجماعية الصورة اختلفت تماما، فقد تخلى المدرسون عن مصدر رئيسى لدخولهم، بوقف الدروس طواعية، بعدما كان التحذير منها بأنها خطر على الكل، والذى لن ينجو منه أحد، مدرسًا كان، أو طالبًا، ففيروس «كوفيد- 19»، لا ينتقي، بل يخترق كل من أمامه، صغيرا أو كبيرا، غنيا أو فقيرا، يعيش في بلد متقدم أو بلد يعيش تحت خط الفقر، فقد هز الفيروس العروش والإمبراطوريات، ولم يستثن أحدًا، فالجميع وقف أمامه عاجزا ولا حيلة له.
تلك كانت أهم رسالة استوعبها الناس في مصر وغيرها، وهى أن الخطر قاب قوسين أو أدنى، والوقاية أهم وسيلة للنجاة، ورسائل «خليك في بيتك لحماية نفسك وعائلتك وبلدك» و«صلوا في بيوتكم لتنجوا» حققت أهدافها، وربما نخرج من تلك الأزمة بفكر وعقل جديدين، ونرى أناسا جددا يخافون على بعضهم، ويجنبون الخاص لأجل العام، بل ربما نجد أنفسنا أمام حالة جديدة من العمل اعتمادًا على التكنولوجيا، وندخل «عالم الخدمات والمدن الذكية»، فرب ضارة نافعة.