قدم عالم الأنثروبولوجيا الراحل الدكتور محمد حافظ دياب، عددا من الدراسات الجادة التى تناولت بالتحليل السوسيولوجى لجماعات الإسلام السياسى، منها «سيد قطب: الخطاب والإيديولوجيا»، و«السلفيون والسياسة»، و«ذاكرة الإسلام والغرب»، وكتاب «نقد الخطاب السلفى»، والصادر مؤخرا عن دار رؤية للنشر، وهو مقاربة سوسيولوجية لمشروع إصلاح عقيدى واجتماعى، اتخذ هيئة تيار فى الفقه، ومنهجا فى فهم العقيدة والشريعة، وانبنى على مقولة التوحيد، والالتزام بما قدمه السلف لنص الوحى قرآنا وسنة، والتمثل به فى العبادات والمعاملات، كرد، فى بدايته، على ما اعتبر انحرافا فى فهم العقيدة، وهو ما يفسر أن نسقه العام يكمن فى البعد العقيدى بجوانبه التفصيلية، وما استتبعه من انشغال دعاته بعلمى الحديث والفقه: الحديث كمصدر قطعى، لديه، فى الاعتقاد والفهم والسلوك والاقتداء، والفقة كعلم بأحكام الشريعة العملية المكتسبة من أدلتها فى القرآن والسنة. ويسعى من خلاله إلى الكشف عن الجوانب المتعددة للخطاب السلفى، سواء منها ما يتصل بمفاهيمه أو بنيته أو تاريخه أو منهجه، مضافًا إليها علاقته بتيارات الحركة الإسلامية الأخرى مع تركيز خاص على مجرياته فى مصر.
والأصولية قائمة بين أصحاب كافة الديانات، بما فيها الديانات الوضعية (البوذيين، الزرادشتيين، الهندوس، البشتو، المنغول..)، وهى تبنى على تمجيد الأسلاف فى العقول والأفعال والسلوك، وجعل العقيدة حكمًا على معطيات الفكر والاجتماع، على معنى أن يكون لوثوقيتها سلطة على القوانين والنظم وفعاليات الحياة العامة والخاصة.
وقد استخدمت فى الغرب، لوصف اعتقادات بعض الدعاة الإنجيليين فى أن الإنجيل هو الكلمة الحرفية والأبدية لله، ومن ثَمَّ وجب الإيمان بالعصمة الحرفية لكل كلمة وردت فيه، اعتبارًا من تلقيها المباشر عن الله، وتم توسيع هذا المعنى تاليًا ليتضمن كافه الجماعات الدينية التى تحاول العيش طبقا للنص الدينى المؤسس. ووردت فى العقيدة اليهودية التى تحمل فى طيتها بذورًا أصولية متطرفة، قلما يعرفها أى فكر دينى فى أية رسالة دينية كرد على عصر النقد العقلى، الذى صاغه الفيلسوف الهولندى «بروخ سبينوزا» لهذه العقيدة فى صلب نصوصها التوراتية، ما حدا بالعودة الراديكالية إلى العقيدة القديمة، ولو بثوب جديد، ممثلة فى الصهيونية كوجه قومى وسياسى لليهودية، وساهمت فى إنشاء دولة إسرائيل على رؤيا أنبياء اليهود، من خلال الرجوع إلى إيديولوجيا العودة للماضى «أرض الميعاد». ويشكل الأصوليون اليهود الآن فى إسرائيل قلب الحركة الاستيطانية، وتمثلهم حركة «جوش آمونيم» بوضوح، لأنها ترى أن إسرائيل دولة «مقدسة»، ومن ثم فإن التنازل عن أى جزء من الأرض يعد فى نظرها «هرطقة» لأنه منحة من الرب.
ويشير محمد حافظ دياب إلى أن نشوء مفهومى «السلفية» و«الأصولية» فى الفكر الإسلامى لم تتم بلورتها إلا فى القرن الثامن الهجرى، حيث استخدم «ابن تيمية» مفهوم «السلفية» إشارة إلى منهج الالتزام بالقرآن والسنة، ومال البعض من فقهاء الشيعة الاثنى عشرية، إلى الإيمان بحد العقل، والتمسك بالنص، والعزوف عن الاجتهاد، وعرفوا «بالإخباريين»، وإن أكد بعض الباحثين أن تسمية «السلفيين» ليست من منهج السلف أصلا، لأنه لا يوجد ما يساندها فى الشرع. وفى المقابل، لجأ البعض إلى الاجتهاد وعرفوا بـ«الأصوليين»، أى المشتغلين بعلم الأصول، وهو العلم الذى يستهدف تبيان المقاصد القطعية المستقرأة من الشريعة.
ويضيف «محمد حافظ دياب» بالقول إن المنهجيتين السلفيتين، النصية والأصولية تتداخلان وتتفاردان: فكلتاهما يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية، وتتشاركان فى كونهما ردًا على من اعتبروهم مبتدعة ومنحرفين فى الاعتقادات عن مذهب السلف، وإن ردتها السلفية النصية إلى أهل السلف، وتناولتها السلفية الأصولية بالأدلة العقلية. وتتفاردان فى إمكان اعتبار السلفية دعوة دينية اجتماعية، فيما الأصولية دعوة دينية أقرب إلى السياسة.
ومن هنا يجوز القول بتفاردهما عبر عدة أمور: فمن جهة أولى، ترى السلفية النصية أن يكون الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، فيما الأصوليون يحتكمون إلى الكتاب والسنة فحسب، مع الاكتفاء بهدى السلف والإفادة من اجتهاداتهم. من جهة ثانية، تؤكد النصية تقديم النقل على العقل، على اعتبار أنه ما دام الجدل فى العقائد فى صدر الإسلام غير موجود ومنعدم، فإن علمًا مثل علم الكلام يمثل ظاهرة غير سوية، وهو بذلك فاقد للشريعة، ولا مبرر لقيامه، فيما الأصولية تضيف الاجتهاد، وتركز على التفكير المستقبلى. ومن جهة ثالثة تركز النصية على فقة الشريعة، فيما الأصولية تستهدف مقاصد الشريعة، من حيث الاعتداد بها فى عملية الاجتهاد الفقهى، كمحاولة لتقليل الاختلاف بين الفقهاء، ومن جهة رابعة، تأخذ النصية بفهم القرون الثلاثة الهجرية الأولى للقرآن والحديث، فيما الأصولية تأخذ بتواتر ما حصل لآحاد الصحابة، من تكرار مشاهدة أعمال النبى، كى تستخلص منها مقصدًا شرعيًا.
وللحديث بقية..