ها هو العالم يعيد التفكير فى كينونته وكل إنسان على وجه الأرض يعيد التفكير فى ماهية «وجوده»! يقول كارل ماركس «النشاط الإنسانى، هو السمة التى تميز الجنس البشرى»؛ فالنشاط والحركة والسعى والإبداع والابتكار هى عناصر الوجود لكنها تقف أمام عدو خفى ضيئل.. غير مرئى.. سريع الانتشار.. يتحدى الهيمنة الرأسمالية.. والدول البيروقراطية والتكنوقراطية.. هل جاء الوقت الذى نترحم فيه على الحروب العسكرية.. فعدو مرئى خير من عدو لامرئى!
أتابع مثلكم الأخبار وأجد «الإنسانية مشلولة».. زعماء العالم فى حالة ارتباك وتخبط وحالة لا يقين وبعضهم يتعامل مع الأزمة باعتبارها حلا براجماتيا لمشكلات العالم، فانظروا إلى نصف الكوب ها هو التلوث تنخفض معدلاته وتعود السماء صافية من جديد، أعداد المواليد تنخفض، والوفيات تتزايد.. مرحى ستقل الكثافة السكانية.. سوف يستعيد الكوكب توازنه.. والبعض يتغنى بنهاية العالم وإنها الفرصة للخلاص قبل ظهور المهدى المنتظر!
ها هو الإنسان يدرك أن نمط الحياة الاستهلاكى، لا يمكنه أن يضمن بقائه على قيد الحياة، بل إن التسوق يمكنه أن يقضى على حياته، أيقن الإنسان أن ثروته ربما لن تمكنه من الحصول على أنبوب تنفس صناعى!
اليقين الوحيد هو أن خلاصنا سيكون فى العودة للفلسفة والشعر والكتب السماوية أيضا وإعادة قراءة التاريخ وكيف عبرت البشرية الكوارث التى مرت بها من قبل، لذا أعدت قراءة كتاب الفيلسوف الألمانى إيرك فروم وعنوانه «الامتلاك أو الوجود» الأسس النفسية لمجتمع جديد، الصادر عن دار «جداول» اللبنانية عام 2016 بترجمة للكاتب حميد لشهب.
فى فلسفة فروم الذي هاجر من ألمانيا إلى أمريكا أفكار كثيرة عن تحولات العالم وأرى فيها استشرافا فكريا لما نعايشه الآن، ففى كتابه إشارات إلى أن الكوراث تعيد صياغة الإنسان من جديد، تماما كما أشار بوذا فى تعاليمه والتى تشبه مبدأ الخلاص الماركسى، فهل هى فرصة لنتحول فيه من مجرد إنسان امتلاكى" عبد لما يملك إلى «إنسان وجودى» يعتمد على كونه موجودا وفعالا وحيويا غير متحجر كما يدلنا فروم.
وبعيدا عن حالة اللا يقين الحالية، فإنه يقينا العالم من بعد «كورونا» ستكون له قوانينه الجديدة، سيكون كل منا إنسانا جديدا، إنها قواعد لعبة «التطور البشرى»، لكن هل سيكون الإنسان كائنا أفضل؟! فهل أصبحت البشرية أفضل مثلا بعد الكوليرا؟!
يضع فروم شروطا للإنسان الجديد التى سوف يصوغها المجتمع الجديد، أولا: الاستعداد للتخلى عن أشكال الامتلاك كلها. ثانيا: يتأسس الأمن والوعى بالهوية والثقة فى النفس على الإيمان فى ما هو المرء وعلى الحاجة إلى الوجود في علاقة مع المحيط ومنح هذا المحيط الاهتمام والحب والتضامن، عوضا عن الرغبة فى الامتلاك والسيطرة على العالم. السعى للقدرة على تطوير القدرة على الحب، تجاوز النرجسية وقبول المحدودية الأساوية للوجود الإنسانى.
وتحيلنى أفكار إريك فروم إلى التركيز على جملة «المسافة الاجتماعية social distance»، والتى يرددها كل زعماء العالم مع التشديد على أنها لا تعنى عدم التضامن أو الذاتية والأنانية. هل سيعى الإنسان أن وجوده وبقاءه مرهون بوجود البشر من حوله فقراء وأغنياء، بيضا وسودا، مسلمين ومسيحيين ويهودا.. مؤمنين وملحدين!!.
يؤكد فروم أيضا أن من شروط وجودنا المستقبلي الجديد أن نعي أن الوصول للسعادة يتم عن طريق المنح والاقتسام وليس عن طريق الادخار واستغلال الآخرين. الشعور بحب الحياة واحترامها في كل صورها، مع السعى إلى تقليص الجشع والكراهية والأهاوم إلى أقصى حد.
وأهم ما أشار إليه هو أن علينا الإحساس بالاتحاد مع كل ما هو حى، وبالتالى الاستغناء عن هدف استغلال الطبيعة وتطويعها واغتصابها والقضاء عليها. فهل يتعلم العالم الأول الدرس؟ ويكتفى من دفن مخلفاته فى العالم الثالث وتدمير ما بقى من طبيعته البكر؟
ولاشك أن تجربة العزل المنزلى التى نعايشها تعيد تأملنا فى معنى الحرية! إلى جانب معنى الحياة والموت، فى الهبات الربانية التى تحيط بنا ونكتفى قليلا من استغلال شبكات التواصل الاجتماعى لنا، نعيد التواصل مع أسرنا.
يقول فروم: «كيفا كانت أبعد نقطة في الحياة، التى يسمح لنا القدر بالوصول إليها، يجب على المرء أن يكون سعيدا وحيويا باستمرار، للعيش بوعى وكثافة قدر المستطاع، ويقود هذا إلى العيش برضا، عوضا عن التفكير فيما يحققه المرء أو لم يحققه»!
أحب أن أشير هنا إلى أن كتاب «الامتلاك أو الوجود» ألفه فروم فى سبعينيات القرن الماضى وحقق مبيعات خرافية حيث سئمت المجتمعات الغربية من قسوة عجلة التحديث وطغيان البروجوازيين، فى تلك الفترة ظهر «الهيبيون» كحركة مناهضة للقيم الرأسمالية، بين طلاب بعض الجامعات فى الولايات المتحدة الأمريكية كظاهرة احتجاج وتمرد على قيادة الكبار ومظاهر المادية والنفعية وثقافة الاستهلاك، فى أعقاب الحربين العالميتين وتبعاتهما، نادت قيم الهيبيون بالدعوة لعالم تسوده الحرية والمساواة والحب والسلام، يقينا سنجد من أبناء الجيل الحالى هيبيون جدد على وشك الظهر بعادات وقيم وملابس جديدة مغايرة قيم وأفكار متمردة.
على أيه حال، علينا أن نتذكر أن نرتدى الكمامة ونقى أنفسنا من «كورونا» وفوقها قناع التفاؤل والحب للمحيطين بنا ولبلادنا وعالمنا. ولا نملك نحن الآن إلا أن نكون فى انتظار الهيبيون الجدد!!