تأكدت خلال الفترة الأخيرة أن العيب ليس في المنزل ولكن في «حضرتى» صاحبة نعرة الحركة الزايدة عن المحتمل. والحقيقة أنه «مش غريب» على مثلى أن تشعر بالأسى الشديد؛ لأن السفر أصبح وباءً في حد ذاته يأتى في درجة خطرة بعد خطر الوباء الحالى. بدأت أرى أن التخلى عن حلم السفر لبودابست هذا الصيف صار واجبًا قوميًا. بدأنا في المنزل في الإعداد لحياة لطيفة نسافر فيها داخل المنزل. تذكرت كلمات جدتى حين كنت طفلة: «مابحبهاش تقعد في البيت، فاكرة البيت مغارة على بابا وبتحوس فيه». وعلى الرغم من دفاعات جدى عن حفيدته الأثيرة: «من حقها تتعلم.. حطى حاجاتك بعيد عنها»، كانت جدتى لا تتوقف عن الشكوى. يبدو أننا لا نتغير رغم مرور سنوات كثيرة. ما زلت أتعرف على بيتى. استغللت فترة الإقامة في المنزل كى أكتشف مخابئ جديدة لأشياء لم أكن أستخدمها، وكانوا يتهموننى بأننى مقصرة لهجرانها. أوانى ومواد تنظيف على الأغلب. لأننى أكره الهندسة الفراغية. قد تسألوننى عن علاقة الهندسة الفراغية بالمنزل كما فعلت معلمة الرياضيات ذات يوم، سأخبركم أن هدف الهندسة الفراغية توزيع الكتل في أماكنها وفق حسابات معينة، وكذلك تفعل أمى. وأنا أعتبر التواجد في حسابات معينة تحديدات مصغرة للإقامة.
لكى أستمتع حقًا بفترة الفصلان داخل البيت جمدت الكثير من اتصالاتى وتواصلاتى الاجتماعية، ومنها «تويترات» و«فيسبوكات».. «وهو يعنى مارك زوكربرج هيشد إيدى ويدخلنى عل الصفحة».. قللت من عدد الزيارات ولم أمنعها. فأنا أحب أصدقائى، وأحب ما يكتبون، لكننى بارعة في اعتزال هؤلاء الذى ينشرون الطاقة السلبية حد أنى لا أراهم ولا ألاحظ أساسًا أنى أعتزلهم حتى يخبرنى أحدهم بذلك فأندهش. علمت أن هذه الصناديق من التواصل الافتراضى نحن من دخلها ونحن من يخرج منها، وليست هناك حاجة لإلغائها. ولست منزعجة من هدير الغضب على تأخرى في الردود. فأنا لا أستقبل الكآبة ولا أراها. وتعلمت من مدربى في واشنطن، في فترة تدريبى بـ«الواشنطن بوست»، أنك لن تستفيد من شىء لم تتعرف عليه أو تعاشره في سعادة، وعلى الرغم من أن الرجل طلق زوجته بعد أن علمنا ذلك بأسبوعين، لم يتوقف عن تكرار وصيته لنا بذات الوصايا طوال فترة التدريب، وبدا أكثر سعادة. لكن يبدو أننا تعلمنا منه أن نعتزل الزواج على طريقة «اعتزل ما يضيرك» دون أن ندرى.
هكذا توقعت أن الحياة استقرت لأسبوعين. وبإمكانى أن أعود لروايتى التى بدأت ولم تنتهِ منذ فترة طويلة لأسباب فنية تتعلق بمزاج «حضرتى». أو كما أقول «بأدور على فنجان قهوة يناسب البطل ومش لاقية». فوجئت بحالات عدم الاستقرار المريبة في الجوار، وكأن من نعرف لا يحبون منازلهم، أو بالأحرى سكانها، فقلت لنفسى إن هذا الأمر طبيعى فمن لم يتعود على شىء لم يحبه في يوم وليلة، وأتوقع أنهم سيرفضون الخروج من منازلهم بعد فترة الاعتزال الحالية؛ لأنهم سيرون شيئًا إن لم تكن أشياء جميلة في بعضهم البعض. إلا أن الأمور تزداد سوءًا مع الوقت، حتى إن أحد الزملاء يشكو أمرًا، أتمنى ألا يكون حالة عامة، لا يجد مكانًا يخبئ فيه هاتفه في المنزل لفترة تمتد طوال اليوم. بصراحة كنت أظن أن مسألة إخفاء الهاتف مزحة «سوشيال ميديية» حتى طفت على السطح وسط خلافات غريبة.
استطعتُ حتى الآن اختراع ثلاث «تحويجات جديدة للقهوة»، واستمعت لموسيقى تكفى لتشغيل دار الأوبرا لعام على ما أظن، تذكرت كيف كان جدى يغلق التليفزيون في أوقات الأخبار السيئة، ويفصل «فيشة» الهاتف ويغلق الهواتف الأخرى. ثم يشرب معى القهوة، عودنى على شربها معه منذ كنت في الخامسة من العمر. كان يرى: «أن الكوارث وقت مناسب عشان تاخد إجازة من العالم»، وكان يعرف كيف يأخذ إجازته من العالم. كان يفعل ذات ما فعله زميل تخييم في الصحراء البيضاء ذات صيف، خرج الرحلة بلا أية وسائل اتصال معروفة لنا، لم يكن معه سوى كاميرا احترافية، وكلما سأله أحدهم عن السبب يقول: «لو عايز تعيش فكر في كل حاجة حلوة لوحدها.. بلاش دوشة» وكرر ذات الجملة لنا جميعًا.
ربما كان الأمر أكثر قسوة من أن أتحدث عن إقامتى في المنزل بهذه الطريقة، لكن فتاة مثلى ظلت تسافر باستمرار ستة عشر عامًا من عمرها، ثم استقرت في مصر لتواصل السفر كل فترة، هذه الفتاة تقدر المنزل جدًا، لكنها تقدر أكثر أن هذا الوطن أجمل من أن نعرضه للخطر، لم أجد أجمل منه، ولم أشعر براحة إلا مع أهله وهم أهلى، كما أننى أعلم أن الله يرى كل شىء، وأن الإنسان الذى يأخذ حذره يأخذه كى يعيش حياة أفضل ويسلم أمره لله.. فعليه أن يحيا بسعادة لمجرد الإحساس بوجود الله. أثق أننى سأعشق البيت وأن معارفى سيتوقفون عن إخفاء الهواتف من بعضهم، وأن القطط المزعجة ستنام مبكرًا، لأنك حين تقيم في البيت لا تبذل مجهودًا يجعلك تنام سريعًا إن شاء الله. أثق بأن الغد أفضل إن شاء الله. أثق بالله.