الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

حوارات

علي الدين هلال يكشف أسرار صداقة استمرت نصف قرن مع السيد يسين: أنقذنى من عصابة سرقة البيجامات فى أوروبا.. وحافظ على مركز الأهرام وسط أمواج متلاطمة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كان يداحر ويرفض التقاعد.. وكتب وثيقة السياسة الثقافية بعد بلوغه الثمانين.. وقال لمنتقده «أتعايرنى بشيخوختي»
استقبلنى بـ«أهلا بمؤلف كتاب تكوين إسرائيل» وودعنى بقوله «العجل وقع يا أبو على»




خلف مكتب خشبى بسيط، يقبع بالدور الثانى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وفى موعد حدده الساعة 2،45 دقيقة ظهرا، استعاد الدكتور على الدين هلال، محطات صداقة دامت أكثر من نصف قرن، جمعت بينه وبين الكاتب الكبير الراحل السيد يسين، صداقة لم تجد شيئا يعكر صفوها، صداقة يمكن أن يضرب بها المثل فى الإخلاص والصفاء والرقي.
نستعرض خلال هذا اللقاء أهم محطاتها منذ اللقاء الأول إلى لحظة الوداع، إنها ليست مجرد سيرة رجلين عاديين إنما محطات مهمة فى تاريخ الوطن. 
«أهلا بمؤلف كتاب تكوين إسرائيل».. كانت هذه هى أول عبارة استقبلنى بها الكاتب الراحل السيد يسين، فى أول لقاء جمع بيننا عام 1971.. هكذا بدأ الدكتور على الدين هلال حديثه لـ «البوابة» حول علاقته بالمفكر الراحل.
واستكمل حديثه قائلا: كنت وقتها طالبا فى مرحلة الدكتوراه بكندا، وكان هذا اللقاء بعد غياب استمر خمسة أعوام عن القاهرة، كلمته تليفونيا فحدد لى الموعد المناسب فى مكتبه، وفى هذه الإجازة الصيفية التقيته مرتين فى مكتبه ومرة خرجنا سويا فى مكان مفتوح، وحدث نوع من التقارب الفكرى والروحى بيننا، ومنذ هذا اليوم إلى يوم وفاته لم تنقطع صلتنا وصداقتنا فى أى وقت من الأوقات.


أول محطة
يرى «هلال» أن أول محطة فى رحلة الصداقة التاريخية بين الرجلين بدأت قبل أن يلتقى «ياسين»، حيث يقول: كان ياسين أكبر منى فى السن، وكنت أدرس مادة مناهج بحث، ووجدت فى هذه الفترة كتابا عمدة فى هذا المجال بعنوان «أصول البحث الاجتماعي»، من تأليف شخصين، الدكتور جمال زكى والسيد يسين، وقد استفدت منه كثيرا، وهنا عرفت يسين كباحث علمى ومتخصص فى المناهج البحثية قبل أن أراه، كما تتبعته على صفحات مجلة الكاتب وهى مجلة يسارية، وكان يكتب بحوثا متميزة، لا أستطيع أن أنسى بحثه الفريد فى آخر الستينيات حول كتب التغيرات والتحولات الدراماتيكية التى سيشهدها العالم بسبب الثورة العلمية والتكنولوجية، وكانت نظرة مستقبلية سابقة لأوانها، وهنا أدركت أنه صاحب فكر علمى ومنهجى ومستقبلي، قبل أن أراه.

زملاء فى الأهرام
يستكمل هلال حديثه قائلا: عدت إلى مصر بشكل نهائى عام ١٩٧٣، بعدما حصلت على درجة الدكتوراه، وعملت مديرا لوحدة النظم السياسية فى مركز الأهرام للدراسات السياسية الاستراتيجية، وكان مدير المركز الدكتور حاتم صادق، ومن حسن حظى أنى زاملت السيد ياسين فى نفس مكتبه بالأهرام، لعدة أعوام متتالية، وكنا نذهب إلى المركز أربعة أيام فى الأسبوع، بالإضافة إلى يوم الاجتماع الأسبوعى للخبراء، يضم كل رؤساء الوحدات بالمركز، وقد سمح التزامل مع ياسين فى نفس الغرفة لعدة أعوام بتفاعلات علمية وبحثية وإنسانية، وكان فى هذا الوقت يجمع بين رئاسة وحدة البحوث الاجتماعية بمركز الأهرام وكونه خبيرا فى مركز البحوث الاجتماعية والجنائية.
وأثناء هذه الأعوام، يتذكر هلال أحد أهم السيمينارات العلمية التى قام بها فى حياته، قائلا: فى هذه الفترة صدر كتاب مهم فى تحليل المجتمع الإسرائيلى بعنوان «المجتمع الإسرائيلي»، لعالم إسرائيلى هام يدعى ايزين شتات، وقررنا أن نحلل هذا الكتاب فنظمنا سيمنار علمى لكل الباحثين فى المركز ووزعنا فصول الكتاب عليهم وكنا نجتمع مره كل أسبوع نتابع العمل كنا نحاول أن نصل إلى حقيقة المعلومات التى يقولها هذا الكتاب ومدى صحتها وما الذى اعتمد عليه وكيفية التعامل معها من وجهة النظر المصرية والعربية وما الدلالات التى نستفيدها من هذا الكتاب، وبالفعل كان من أعظم التجارب العلمية التى مررت بها.


محطة جديدة
يحكى «هلال» عن محطة جديدة بدأت عام 1974، عندما تولى الدكتور أحمد كمال أبوالمجد وزارة الإعلام وكلفنى بعمل نشرة علمية حول أصداء أداء الوزارة فى الإعلام، وتحليل للأحداث الدولية والإقليمية، وتأثيرها على مصر، وبالفعل تم انتدابى لوزارة الإعلام، ولم أجد أقرب من السيد يسين ليكون جليسى فى غرفة واحدة بالدور التاسع فى ماسبيرو، وجمعنا مجموعة متميزة من الباحثين الشباب الذين صاروا نجوما فى عالم الفكر فيما بعد، منهم الدكتور عبدالمنعم سعيد والدكتور محمد سعيد إدريس وغيرهما، واستمر العمل عامين نقدم أوراقا سياسية وتحليلية، وأذكر أن يسين اقترح إنشاء مرصد لمتابعة الرأى العام، وقدمنا استقالتنا يوم مغادرة أبوالمجد للوزارة ولم نرد أن نفرض أنفسنا على الوزير الجديد وكان يوسف السباعي.


العودة إلى الأهرام
انتهت محطة وزارة الإعلام، وبدأت محطة أكثر دراماتيكية من حياة «يسين/ هلال» بعدما عادا إلى مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية وتدهورت العلاقات بين الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير الأهرام والرئيس الراحل أنور السادات، وتمت إزاحة هيكل من المشهد، ومن ثم تغيرت إدارة المركز وأصبح يسين مديرا للمركز.
يتذكر «هلال» هذه المرحلة جيدا، ويقول عنها؛ منذ رحيل هيكل عن الأهرام ورحيل السادات للقاء ربه، كانت مرحلة مليئة بالصراعات السياسية فى مصر، وكانت الإدارة السياسية تنظر للمركز باعتباره بؤرة من بؤر الولاء لهيكل، وتهكم السادات فى هذا الوقت على هيكل وعلى المركز علنا قائلا: «عاملى صديق الملوك والأمراء- يقصد حسنين هيكل- وعاملى مجلس حكما كل أسبوع يقعدوا ينتقدوا سياسة البلد»، وكان يقصد مجلس الخبراء الذى يجتمع كل أسبوع لوضع خطة عمل المركز.
يتابع هلال: يحمد للسيد يسين أنه حافظ على المركز فى الأهرام وسط أنواء وعواصف، وكان يمشى على الأشواك، دون أن تنجرح قدماه، وكان يحسب كل كلمة يكتبها، وفى فترة من الفترات تولى إحسان عبدالقدوس رئاسة مجلس إدارة الأهرام، وفترة أخرى تولى على أمين، وكانوا يعقدون لقاءات معنا فى المركز، ورغم قامتهم الفكرية والأدبية الكبيرة إلا أنهم لم يكن لديهم فكرة عن عمل مركز الأبحاث ولا دوره، وكان حديثهم صعبا جدا ولكن يسين استطاع أن يحتويهم ويستوعبهم بأدبه وأخلاقه، ونجح فى أن يحمى المركز من تدخلات لتغيير مساره وهويته.
وكانت الضغوط على مسارين، أحدهما من السلطة السياسية، والثانى من أعداء هيكل داخل الأهرام، وكان بعضهم يقترح أن يتحول المركز إلى مركز تسويق إعلامى وصحفي، لأنهم كانوا يعتبرون أن المركز بمثابة الطفل المدلل لهيكل، وأنه يفرد لنا صفحة كل أسبوع، وبالفعل دفع المركز ضريبة باهظة بسحب كل الامتيازات منه وإعادته إلى المربع صفر، ولكن يسين استطاع أن يقود المركز فى ظروف صعبة جدا، وأن يحافظ على دوره واستقلاله وهويته العلمية.


التقرير الاستراتيجى العربي
يرى «هلال» أن «يسين» خليط بين رجل القانون والباحث الاجتماعى والفنان صاحب الخيالات الواسعة، فى يوم من الأيام جمع المركز، وقال إننى بدأت أشعر بأننا نقوم بأعمال مكررة وأريد أن نخرج بفكرة مبتكرة لشيء جديد، وأقترح أن نقدم التقرير الاستراتيجى العربي، وهو عبارة عن تقرير سنوى ينقسم إلى ثلاثة أقسام فرعية وهى «التفاعلات الدولية، والنظام العربى والإقليمي، ومصر»، ويمثل الخيط الناظم المشترك فيما بينها فى التركيز على «التفاعلات» على المستويات المختلفة، سواء داخل أو بين الدول، مع رصد وتحليل القضايا والظواهر التى تطرح نفسها على مختلف الساحات، بعيون مصرية عربية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد إنما خصص يسين فصلا غير مسبوق فى السياسة الدفاعية المصرية تضم صفقات السلاح التى أبرمتها مصر والتدريبات العسكرية، وقد حصلنا على المعلومات من قصاصات صحف أجنبية، وقمنا بتحليلها، وأعتبر هذا التقرير الاستراتيجى أحد الإسهامات الكبرى للسيد يسين، وفور انتخابى عميدا لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1993، اقترحت عليه إقامة ندوة تناقش التقرير كنا نستضيف خلالها وزراء وضباط من القوات المسلحة وسفراء وشخصيات عامة، لمناقشة ما تم طرحه خلال التقرير، وأصبحت مناسبة تبلور وجهة النظر المصرية فيما يتم طرحه، واستمر طوال فترة وجودى عميدا ووجود يسين مديرا للمركز.
وقد ذهب طموح السيد يسين بعد ذلك إلى أن ينظم المؤتمر الاستراتيجى العربي، واتفق مع مركز الدراسات الاستراتيجية فى الجامعة الأردنية، على أن يتم بالتعاون معهم، وعقد من هذا المؤتمر دورتين كل عامين مرة، لمواجهة التحديات التى تواجه الدول العربية.


تعاليم يسين
يؤكد «هلال» أنه تعلم من السيد يسين عدة خصال بعضها كان موجودا لديها وغذاه اقترابه منه وبعضها تعلمه منه للمرة الأولى، مثل مساعدة شباب الباحثين، خاصة أنه لم يبخل أبدا بوقت أو بجهد أو بمعلومة على أى باحث يرغب فى تعلم شيء ما، وكان مكتبه مفتوحا للباحثين الذين يطلبون العون منه، وعنده تواضع علمى شديد لم يزعم يوما أن ما يعتقده هو الصحيح، كان دائما طالبا وتلميذا، ولم يتوقف يوما عن الاندهاش، نهم القراءة خارج تخصصه، ورغم أنه خريج قانون إلا أن كتبه تظل شاهدة على أنه من أفضل من كتب فى التحليل الاجتماعى والثقافى للشخصية المصرية والعربية، وكان مثقفا متعدد الاتجاهات وليس المتخصص العلمى فى مجال واحد، زاملته سنوات طويلة فى المجلس الأعلى للثقافة، دائما مجدد فى أفكاره، كما تعلمت منه أمرا لم أجده فى الجامعة وهو تشكيل فرق البحث العلمى كأن تكون فرقة بحث من 10 باحثين لدراسة أمر معين.


الملف الثقافى
وحول رؤيته للملف الثقافى، قال هلال: طرح يسين فى أحد اجتماعات المجلس الأعلى للثقافة، سؤالا حول طبيعة السياسة الثقافية لمصر، فرد عليه أحد الحضور بكلام عام، فقال له يسين المفروض أن يكون لدى مصر وثيقة محددة الملامح، فقال له «متكتبها أنت»، فعكف على كتابة وثيقة «السياسة الثقافية المصرية»، طرح خلالها آرائه، ولم يتحمس لها المجلس وقتها، فنشر هذه الوثيقة على صفحتين كاملتين فى جريدة الأهرام، وفوجئ بأحد الصحفيين بالأهرام يكتب مقالا ينتقد خلاله الوثيقة بأن رجلا فى الثمانين من عمره لن يستطيع أن يضع السياسة الثقافية المصرية، ودعا أن يترك ذلك للشباب، فكلمه يسين فى التليفون وقال له أتعايرنى بشيخوختي؟ عليك أن تناقشنى فى أفكاري، ويشاء ربك أن يتوفى هذا الكاتب قبل السيد يسين بأعوام، رغم أنه كان صغيرا فى السن، وقتها حزن يسين جدا، ولكننى أدركت أن الأعمار بيد الله، فهذا الكاتب رغم حداثة سنه إلا أنه توفى قبل ابن الثمانين عاما.


المرصد الاجتماعي
وأكمل هلال: ظل يسين رغم خروجه من المركز متابعا جيدا لأنشطته وفعالياته، وكان يكتب مقدمة التقرير الاستراتيجى كل عام، وبعدها جمع ما كتبه فى كتاب صدر عن هيئة الكتاب، وظل يكتب كأحد كتاب الرأى فى الأهرام، وكان يرى أنه من حق الأجيال الجديدة أن تتولى زمام المسئولية وتدير المؤسسات على النحو الذى تراه، وظل مستشارا بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، وكان مؤمنا بفكرة المراصد وكان يقول إن الأشياء لا تحدث مفاجأة ولا صدفة، وإذا أردت أن تفهم شيئا عليك أن تتابع مساره التاريخي، وكان يرى أن المرصد الفكرى أو الاجتماعى مهمته أن يتابع حركة الأفكار وتحليل الأحداث السياسية والاجتماعية، ودراسة ما يمكن أن ينجم عنها من ثورات واضطرابات، وبالفعل أنشأ المرصد الاجتماعى وطرح نفس الفكرة على مكتبة الإسكندرية وأنشأ مرصدا مماثلا ولا أعلم إذا كانت ما زالت تعمل أم أغلقت، وما أعلمه أننا كرمنا السيد يسين فى حياته ونظمنا مؤتمرا علميا على مدى يومين بالتعاون بين لجنة العلوم السياسية ومركز العلوم السياسية فى كلية الاقتصاد، وصدرت فى كتاب عن الفكر السياسى لدى السيد يسين.

الأيام الأخيرة 
كنت أقضى يومى الخميس والجمعة فى منزلى بوادى النطرون، وأعود لأسلم على الأسرة فى شارع الهرم، وفى أثناء طريقى للأسرة، فوجئت باتصال تليفونى من ابنته، قالت لى إن والدها مريض جدا ولم نقل لأحد ولكنه سأل عليك كثيرا، فتوجهت على الفور للمستشفى وكان فى مدينة 6 أكتوبر وكان واعيا ويقظا، قلت له «سلامتك يا أبو السيد»، فرد متهكما، «العجل وقع يا أبوعلي»، وكان رجلا ساخرا له موقف عبثى من الحياة، لا يخاف من الموت ولا من الفقر، وكانت أول شقة سكنها بجوار المركز القومى للبحوث الجنائية وكانت شقة متواضعة، وكان يحذرنى خلال زيارته «خلى بالك فى أول دور سلم مكسور أوعى تقع»، وقد تكررت زياراتى عليه فى المستشفيات المختلفة التى زارها فى أواخر حياته، ولم يكن هناك إدراك لحجم الأمراض التى يعانى منها، ولكن يبدو أن السن والأمراض تكالبت عليه، ومرت عليه أيام كان يقظا يحدثنى كلما كتب مقالا وهو على سرير المرض وكان فرحا بعد صدور كتابه الأخير من هيئة الكتاب، ووعدنى بنسخة منه، وتتالت زياراتى له إلى أن قضى الله أمرا كان مفعولا.
كان عزاؤه فى مسجد الشرطة بأكتوبر ووقفت أتلقى العزاء وبجوارى شقيقه الأكبر اللواء فؤاد يسين ونجله ونجل فؤاد يسين. 


آفاق سياسية
السيد كان بيداحر رغم تخطيه الثمانين عاما ولكنه يعشق العمل، ويحدثنى صباح كل يوم يقول لى «هاحكى لك حصيلة قراءاتى بالأمس»، وخلال دقائق يمنحنى خلالها الكثير من القراءات الجديدة لأهم الكتب العالمية، والتى تصدر بلغات أجنبية وكان يحصل على أغلبها عن طريف الإنترنت، وكان على معرفة بأحدث الكتب والاتجاهات الفكرية، وحريص على أن ينقل أفكاره الجديدة، ولحرصه الدائم على العمل والبحث عرض على الكاتب عبدالرحيم على إنشاء مركز العربى للدراسات والبحوث فيتحمس لها ويشهد المركز فترة «يسين» عصره الذهبى، حتى إنه أصدر مجلة شهرية اسمها «آفاق سياسية»، كان يتولى رئاسة تحريرها الدكتور يسرى العزباوي، وكان يصدر سلسلة كتيبات ودراسات كثيرة، وأتذكر أن «البوابة نيوز» نظمت مؤتمرا علميا حاشدا بعد وفاته وحضرت هذا اليوم وأتذكر جيدا، لأن «يسين» نموذج مضيء وهو ابن الأربعينيات من القرن الماضي، ربما لم يتبق من أبناء جيله إلا عدد قليل للغاية، وهم فى منتصف الثمانينات وما زالوا فى معترك الحياة الفكرية بشكل أو بآخر.
كان «يسين» يرفض فكرة التقاعد، وكان يقول إن التقاعد للموظفين والمفكر لا يتقاعد، وكان دائم السخرية حتى لو من نفسه، وكان يقول أنا ظللت باحثا 60 عاما أكتب وأقرأ وأفكر وأحلل، وأنا الآن مثل لاعب كرة القدم بعد الاعتزال إما أن أعمل مدربا أو أحكم، وأنا كذلك إما أن أعلم الأجيال الجديدة أو أحكم رسائل الدكتوراه والماجيستير، من أهم صفاته التواضع الشديد والكرم، ولم يكن يأخذ باله كم يملك من أموال.
وأضاف «هلال»: شهدت معه الكثير من المواقف الهزلية، خاصة فى السفر، وذات مرة كنا فى مطار القاهرة القديم متجهين إلى إيطاليا، وطلبنا فنجانين من القهوة وأخذنا نتناغى وندردش، وأعلنوا عن الطائرة مرة واثنتين وثلاثة ونحن فى عالمنا الخاص، وفجأة انتبهنا على النداء الأخير قبيل أن تغلق الطائرة أبوابها أمام المسافرين، فانطلقنا بالحقائب نجرى فى أرض المطار، ولم ينقذنا إلا سيارة من سيارات الجيش حملتنا إلى الطائرة إنقاذا للموقف، ولولاها لما استطعنا اللحاق بالطائرة.
لا يتمالك «هلال» نفسه من الضحك وهو يحكى موقفا جديدا، قائلا: فى مرة كنا بأحد المؤتمرات العلمية بإحدى الدول الأوروبية، وعلقت البيجامة على الشماعة قبل خروجى لجلسات المؤتمر وعندما عدت لم أجدها، فكلمته بغرفته وقلت له احترس يا صديقي، هناك عصابة لسرقة البيجامات فى الفندق، فجاء لى على الفور وقال لي؛ ارفع المخدة سوف تجد البيجامة أسفلها، وبالفعل حدث ذلك فقلت له «انت مش هتبطل الهزار السخيف بتاعك ده يا سيد»، فقال هذا تقليد فى بعض الفنادق فى أوروبا، بدلا من كى البيجامات، وقد حدث ذلك معى منذ سنوات ووقتها ظللت أسأل حتى عرفت.

المرأة ويسين
حول المرأة فى حياة السيد يسين، أكد «هلال» أنه لم يكن له شطحات نسائية أو علاقات غرامية، وإنما ارتبط بزوجته أم أولاده السيدة «ليلى»، وهى سيدة فاضلة، ولكنها توفيت عن عمر مبكر، وعندما ذهب للعمل أمينا عاما لمنتدى الفكر العربى بالأردن، تعرف على الدكتورة أميمة الدهان، أستاذة الاقتصاد فى الجامعة الأمريكية بالأردن وتزوجها، وعندما عاد إلى مصر قضى نحو عامين وتبين له صعوبة بقاء الارتباط بين زوجين فى بلدين منفصلين، فاتفقا على الانفصال بهدوء، وعندما توفيت هذه السيدة الكريمة، حرص على أن يسافر إلى الأردن ووقف يتلقى العزاء فيها، ولم يكن يحب السهر خارج المنزل وكانت صداقاته محدودة العدد وفى سنواته الأخيرة.

علاقة غريبة
يرى «هلال» أن علاقة السيد يسين بالدكتور سعد الدين إبراهيم علاقة من أغرب ما يكون، فرغم الخلاف الفكرى والسياسى الحاد بين الرجلين، والذى وصل إلى التراشق على صفحات الجرائد، إلا أنه كانت تجمعهما علاقة صداقة حميمة، وكثيرا ما كنا نلتقى ونخرج ونتحدث فى مختلف الشئون.
لم أذكر وقوع أى خلاف بيننا على أى شيء، يمكن أن يكون اختلافات على تفسير أمر علمي، إلا أن الخلافات الشخصية لم يكن لها مكان بيننا، وربما لم يكن بيننا مجال للتنافس، وبالتالى فلا مجال للخلافات، كان طريقى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وكان طريقه علم الاجتماع ومركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وربما كنا نكمل بعضنا، فى كثير من الأمور، حتى إننا فى عام 1980 وجدته يقول إننى اكتشفت اكتشافا كبيرا فى الإسكندرية، منطقة اسمها أبوتلات، بعد العجمي، وكان شقيقه الأكبر فؤاد يسين، ضابطا بحريا وعرف أن بها شققا جديدة وشاليهات للإيجار بـ500 جنيه فى العام، وبالفعل ذهبنا واستأجرنا شقتين بجوار بعضنا، للمصيف، كنا نقضى أشهر الصيف فى هذه المنطقة الجميلة وكانت الكهرباء كثيرا ما تنقطع فنقضى أغلب الوقت نؤنس بعضنا البعض، قبل أن يظهر الساحل الشمالى وغيرها وقضينا بها أحلى أيام الشباب، قضينا بها نحو 15 عاما.