لم تكن علاقتي به عادية مُذ عرفته قبل عشرين عامًا في العام ١٩٩٨، عندما زرته بمكتبه في «الأهرام»؛ لأهديه كتابى الأول «المخاطرة في صفقة الحكومة وجماعات العنف»، ظننت في البداية أن الرجل لن ينظر إليه بعدما أغادر مكتبه، فلم تكن لي واسطة لديه، إذ اتصلت به مباشرة دون سابق معرفة، إلا أننى فوجئت به يكتب عني وعن الكتاب في الأسبوع الذي يليه، وبشكل أذهلني حقيقة وألهب لدي مشاعر الحب والاحترام للرجل.
تعمقت علاقتى بالسيد يسين المفكر والإنسان، منذ ذلك التاريخ، صار قارئى الأول وناقدى الأول، وأذكر مرة نعته بالدكتور سيد يسين، فإذا به يزمجر، قائلًا: «أنا لست دكتور يا عبدالرحيم، ولم أحصل على الدكتوراة»، وأردف: إن الدكتوراة لا تصنع اسمك، ولكن الاعتراف الدولى بك داخل المجتمع البحثى والعلمى هو ما يصنع اسمك، وأنا لا أحتاج هذا اللقب، فأنا السيد يسين وكفى.. وعندما فكرتُ في إنشاء المركز العربى للبحوث لم أجد خيرًا من عباءة السيد يسين لنلتحف بها جميعًا تلاميذ ومريدين، فكان أول مدير له.
أسعدتنى الأقدار بأن نتزامل معًا في العمل، فرأيته باحثًا مُدقِّقًا وملتزمًا إلى أقصى حدود الالتزام، وعندما احتفلنا ببلوغه عامه الثمانين في مكتبى بـ«البوابة»، رأيت الفرحة تعلو وجهه كطفل، تحدث من القلب، وضحك حتى السعال كالعادة، فقد كانت رئتاه الضعيفتان تضيقان بالضحك كما تضيقان بالدخان الذى ظل محافظًا على استنشاقه عبر «البايب»، الذى لم يفارق حقيبته حتى وضعه الأطباء على أجهزة التنفس الصناعي، قبل وفاته بأسبوع.
في الزيارة الأخيرة ودَّعْتُه وقلت له: لن أزورك مرة أخرى، فقد تأخرت كثيرًا على غير عادتك على مكتبك، فأشار إلى بيديه بما ينبئ بأنها أيام وسيكون هنا في مكتبه، وطلب ورقة وقلمًا وأشار إلى من كانوا بالحجرة أن يخرجوا، وكتب لى كلمة واحدة أعتقد أنني ما زلت على العهد معه فيها وأتمنى أن أظل كذلك حتى ألقاه.