يتابع ريتشارد واطسون مؤلف كتاب «عقول المستقبل: كيف يغير العصر الرقمى عقولنا، ولماذا نكترث، وما الذى فى وسعنا فعله»، والصادر عن المركز القومى للترجمة، بقوله: سبب عام آخر لارتكابنا الأخطاء، وهو يرجع إلى الطريقة التى تصنف بها أذهاننا المعلومات التى ترد إليها.
كل المعلومات والخبرات يوضع لها أساس بطاقة تصنيفية «رقم مرجع لو شئت تسميتها»، وتفهرس فى ملف بعيد، على عمق داخل رءوسنا.
ومع ذلك، فالمعلومات والخبرات لا تجلس فى هدوء من تلقاء نفسها، فى انتظار أن ينادى عليها، عند الاحتياج إليها بشدة. إنها مرتبطة بأفكار عاطفية عديدة، مخزنة هى أيضًا بعيدًا. من الطبيعى ألا يشكل ذلك أى مشكلة، لأننا نستخدم هذه المادة لصنع القرارات، وإصدار الأحكام. ولكن من حين لآخر هذه العلاقات تخذلنا. أحيانًا تلصق الذكريات المضللة نفسها بالمعلومات، مما ينجم عنه شكل زائف من التعرف على الشىء ومن ثم إساءة الفهم. إننا نظن أننا نفهم الموقف «القائم على الخبرة السابقة»، بينما الحقيقة غير ذلك.
يظل مارشال مكلوهان على حق. فعلى الرغم من مظاهر التقدم التكنولوجى الحديثة، فما زالت الوسيلة الناجحة هى إرسال الرسائل التقليدية. لذلك إذا أردت أن تقاطع أحدًا مشغولًا بإرسال واستقبال رسائل إلكترونية، فإن أقدمت على إرسال رسالة إلكترونية أخرى، فمن المحتمل ألا تكون هى الوسيلة الأفضل التى عليك انتهاجها.
فى الوقت الذى نالت فيه الرسائل المطبوعة على الحاسب استجابة أفضل بكثير من تلك التى أرسلت عبر البريد الإلكترونى، ما زال الأمر يبدو وكأننى نسخت رسائل بريدية ووضعت عليها أسماء وعناوين، ثم أطلقت عدة مئات من الرسائل دفعة واحدة فى غضون بضع دقائق.
من الممكن جدًا أن يكون الأشخاص الذين تلقوا الرسائل المكتوبة بخط اليد قد أشفقوا على فشعروا بالأسى على لشدة فقرى لدرجة أنهم ظنوا أننى لا أستطيع أن أقتنى جهاز حاسب آليا وطابعة. لكنى لا أعتقد ذلك. فقد أخذت الرسائل منهم قدرًا كبيرًا من الجهد، وقد ظهر ذلك جليًا فى الرسائل التى تلقيتها. وبدا الأمر وكأن أولئك الأشخاص قد شعروا بالالتزام بقراءة الرسائل التى أرسلتها لهم، ووجدت معظم هذه الرسائل طريقها مباشرة إلى مكاتب المرسل إليهم، ولم يعترض طريقها جيش المساعدين الذين من وظائفهم حماية مستقبل الرسالة من الرسائل الإلكترونية غير المرغوب فيها والبريد والمكالمات التليفونية المرفوضة.
إحدى المزايا الرائعة للورق التى يتفوق بها على البيكسل أن الورق يزودنا بتحفيز حسى أكبر. أشارت بعض الدراسات إلى أن نقص الحافز الحسى لا يؤدى إلى الإصابة بالإجهاد المتزايد فقط، لكن الذاكرة والتفكير يتأثران سلبيًا.
إن السؤال المطروح حول ما إذا كانت التكنولوجيا الرقمية تؤثر أو لا تؤثر فى طريقة تفكيرنا، هو سؤال مضلل لأن هناك – كما رأينا – أكثر من نوع من التفكير، مثلما هناك أكثر من نوع من الذكاء. وبالتالى، فإن الجدل لن يستمر إذا كان النقاش حول وجود تأثير أم لا، بينما الجدل سيكون حول كيفية تأثير أنواع معينة من التكنولوجيا الرقمية على أنواع التفكير محل اهتمامنا الزائد.
يكفل التخزين الرقمى لنا القدرة على تسجيل حياتنا بأكملها بواسطة أجهزة يمكن ارتداؤها. ولذلك تقييم حيواتنا قابلة للبحث برمتها. وسيكون لذلك مجموعة واسعة من التداعيات، تتراوح بين «سرقة الذاكرة» حتى المسائل المتعلقة بموت النسيان. بحلول عام 2020 ستكون أغلبية الكتب الدراسية الجامعية قد تحولت إلى الأشكال الرقمية.
ستصبح الآلات على دراية بالحالة العاطفية لمستخدميها، وتتكيف وفقًا لتلك الحالة. وفى الوقت نفسه، سيصبح البشر أشبه بالآلات فى علاقاتهم الشخصية وتفكيرهم. ومن ثم سيتطور إدمان الجنس المعلوماتى، وحتى الزواج المعلوماتى «وهو عمومًا، إنسان يلتقى بآلة».
ستظهر «ذروة الانتباه» كمفهوم، وسيبدأ الناس فى ترشيد استهلاكهم للمعلومات من خلال الحمية الرقمية أو باستخدام غرابيل المعلومات الاحترافية. وعلى النحو نفسه ستصبح الثقة فى المعلومات مسألة هائلة. وسوف تعمل العنكبوتية جزئيًا على حل هذه المشكلة، لكن الحل الأفضل أن نبدأ فى استخدام المكتبة المحلية.
ستظهر حركة التفكير البطىء موازية لحركة الطعام البطىء، إذ يحتفى الناس بالقراءة البطيئة، والكتابة البطيئة، والأشكال الأخرى من الاتصال القديم القائم على استخدام الورق. ستعود بعض الشركات أيضًا لاستخدام الورق من أجل الوثائق الاستراتيجية نظرًا للهجمات الإلكترونية، وبسبب الأخطاء المتعلقة بسرعة قراءة المعلومات المهمة على الشاشة. سيتم الاعتراف بإدمان الإنترنت، لكن من قبل الحكومات فقط التى ستنشئ عيادات لعلاج إدمان الإنترنت، ومراكز استشارية للتخلص من إدمان الإنترنت. معظم المرتبطين إلكترونيًا بالمكتب أو بأصدقاء فيس بوك المتعصبين سيرفضون حتى الاعتراف بأن هناك مشكلة. وفى الوقت نفسه التسلط «البلطجة المعلوماتية» عبر الإنترنت وسرقة الهوية الطبية، ستستمر ويتسبب كل ذلك فى مشكلات كبيرة فى العالم الحقيقى.
سيكون هناك تقارب متزايد بين العوالم الرقمية والعوالم البيولوجية مع مواقف الخط المباشر للإنترنت، وسلوكيات تؤثر فى الحياة الحقيقية والقيم المجتمعية. وسيؤدى الاتصال المباشر بين المخ والآلة إلى هذا الاتجاه.
أود أن أترككم مع فكرة واحدة أخيرة، التكنولوجيا ليست قدرًا محتومًا. المخ البشرى، على الأرجح، أعقد بناء فى الكون، لكنه يتميز بميزة متفردة شديدة البساطة، وهى أنه ليس جامدًا. إنه مرن بالفعل، إنه حساس لدرجة أنه يسجل كل شىء يسحره، أو يردعه، أو يمس شغافه.