الجمعة 20 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

"إحنا آسفين" يا جلال أمين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم ينتبه كثيرون أن أكثر كتاب قرأه المصريون في السنوات الأخيرة وأعيدت طباعته عشر مرات هو كتاب د. جلال أمين "ماذا حدث للمصريين؟"، الذى رصد فيه التحولات التى طرأت على المجتمع المصرى في نهايات موسم الهجرة للخليج وعودة عشرات الآلاف من المصريين وأبنائهم من تلك الدول، وفى الوقت نفسه ما حدث للإنسان المصرى إثر تعرضه المفاجئ لتأثيرات الانفجار الرقمى وثورة تكنولوجيا الاتصال؛ حيث أصبح "الموبايل وفيس بوك في يد بائع البطاطا"!
أليس غريبًا أن أكثر كتاب يقرأه المصريون هو "عن ما حدث لهم"؟!
لقد كشف جلال أمين في كتابه الأشهر كيف تزامنت فوضى الثقافات التى اختلطت فيها عادات ولهجات أهل الخليج (أكلهم وملابسهم وكلامهم وغناءهم وموسيقاهم) بأسلوب الحياة الغربى الذى انتشر مع التوسع في المدارس الدولية والتعليم الأجنبى والانفتاح على أسلوب الحياة الأمريكية تحديدًا، والتى أصبحت نموذجًا وقدوة و"مثالًا مقدسًا" في منابر إعلامية رسمية وغير رسمية وفى الفن والثقافة الزاحفة منذ الثمانينيات إلى كل مكان من العاصمة وحتى أبعد قرية في مصر.
وهكذا اختلطت اللغات واللهجات مع الهامبورجر والكبسة والمندى والعقيقة والنقاب وسيديهات السديس ومشارى راشد مع جنيفر لوبيز ويانى وحفلات الساحل مع حمو بيكا وشاكوش ومنتجات يوتيوب ونتفليكس وشاهد.. كل هذا الخليط تم عجنه وإعادة تشكيله وتحويره كفيروس كورونا ليمتزج بشخصية مصرية عجيبة ومعقدة نشاهد تجلياتها الغريبة والمدهشة كل يوم في مواقف وحوادث غير مفهومة وصادمة ومحزنة!
وصدقونى.. لم أصدق عينى وأنا أشاهد "الفيديو المرعب" (وهاشرح ليه هو مرعب!) لمواطن آسيوى يتعرض لأقسى أنواع التعذيب والسخرية على الطريق الدائرى وهو يحاول إيقاف سيارة أجرة أو ركوب ميكروباص بعد أن طرده سائق من سيارته، بينما كل السيارات تهرب منه، والناس تبتعد عنه وتجرى حوله كأنه حيوان أجرب سينقل لهم عدوى طاعون والعياذ بالله! لم أصدق أن هؤلاء بشر خلت قلوبهم من كل مشاعر الرحمة وسمحوا لأنفسهم بإهانة غريب عن بلدهم، هو بالتأكيد إنسان محترم في بلاده، مهندس أو خبير جاء إلى مصر (بلد الأمن والأمان وادخلوها بسلام)، ربما للعمل في مشروع كبير، أو جاء لينقل خبرته لأبنائنا في مجال حيوى، أو ضمن وفد للاستثمار في صناعة أو زراعة.. أو..! كل هذا طاف أمام عينى وأنا أسأل نفسى: ماذا حدث لنا؟!.. وماذا كان يمكن أن يكتب جلال أمين عما حدث من تشوه أخلاقى وتحول مخيف للشخصية المصرية في السنوات الأخيرة؟!.. هل نحن نعيش سنوات ما بعد هزيمة ٢٥ يناير وما تلاها من أيام سوداء في حكم الإخوان؟!.. أو ربما نعيش سنوات عدم اليقين والشك وعدم التصديق أى شىء؟.. هل الإنسان المصرى الذى تنمر بقسوة جارحة ومؤلمة على هذا المواطن الآسيوى الغريب والوحيد بلا أهل في بلادنا، ومن قبله مع شاب سودانى طيب، وما يحدث كل يوم من حالات تحرش وإساءة لبناتنا وأخواتنا في الشوارع، وهذا الإجرام المرورى الذى نشاهده من الميكروباص والتوك توك، وعدم احترام كبار السن والسيدات العجائز في المصالح الحكومية، وانتهاك القانون علنًا وببساطة في كل مكان، حتى أصبحنا لا ننزعج من مشاهد القبح والقمامة والتلوث السمعى والبصرى ومن كافة أشكال البلطجة والسب والقذف المباح على شاشة التليفزيون بلا حساب ولا رادع! 
نحن لم نعد ننزعج.. أو نستغرب.. أو يغلى الدم في عروقنا لإهانة امرأة أو إنسان ضعيف!
هذا هو الرعب!
وهذا هو ما يمكن أن نسميه "محنة أمة"!!
لقد انتفضت بريطانيا في نهاية السبعينيات وشعرت بالعار قبل سنوات حكم مارجريت تاتشر، عندما انهار التعليم فانهارت معه الأخلاق، وضاع الشباب وانخرطوا في جماعات عنصرية.. مثل النازية الجديدة، وNational Front.. وغيرها، فاجتمع المفكرون والمثقفون وأصدروا الوثيقة الشهيرة "أمة في محنة"، وقرروا أن أول خطوة للإنقاذ تبدأ بإصلاح التعليم ومعه التربية وإصلاح الخلل في منظومة القيم (الفهلوة ليست شطارة والبلطجة ليست جدعنة والصوت القبيح لا يصلح للغناء، والابتذال مكانه المواخير وليس قنوات التليفزيون).. وهكذا بدءوا هناك أكبر عملية إنقاذ لبلد عظيم كان على حافة الانهيار الاجتماعي.
وكانت البداية أنهم شعروا بالرعب! وخافوا على مستقبل أمة "كانت" عظمى يومًا ما!
فماذا لو عاد المفكر الكبير جلال أمين من مرقده وشاهد ماذا حدث للمصريين (صناع أول حضارة في التاريخ الإنسانى) بعد أقل من عامين من وفاته.. أو شاهد هذا الفيديو الذى يشيره المصريون بلا مبالاة دامية (من باب الفكاهة) لإهانة وتجريح مواطن غريب في بلدهم.. ماذا يكتب؟!.. 
هل يكتب عن الجهل أم عن قسوة القلوب، أم عن التخلف والتشوه الإنسانى، أم عن "حالة التولة" التى كتب عنها يوسف إدريس بعد هزيمة ٦٧؟!
هل يكتب؟!.. أم يفضل القبر على أن يعيش أيامًا أخرى من الخجل والحزن على ما حدث للمصريين؟!