قبل ساعات قلائل، احتفلت مصر كلها وفى القلب منها القوات المسلحة، بيوم الشهيد، تخليدًا لذكرى الشهداء، الذين ضربوا المثل والقدوة في العطاء بلا مقابل، والتضحية بلا حدود، ففى يوم التاسع من مارس عام 1969، استيقظ المصريون على خبر أليم هو استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق، على الجبهة حينما كان يزور أبطال الجيش المصري، على جبهة القتال مع العدو الإسرائيلي.
حينها أدرك الشعب المصري، أنه فقد واحدًا من أشجع رجالاته، وقائدًا فذًا من قادة القوات المسلحة، شارك في أغلب حروب عصره وأبدى بطولات لا تنكر، بداية من الحرب العالمية الثانية بين عامى 1941 و1942، مرورًا بحرب فلسطين عام 1948، والعدوان الثلاثى على مصر عام 1956، ثم حرب 1967 وأحد علامات حرب الاستنزاف المضيئة، فسادت في الشعب مشاعر كثيرة ما بين الحزن والألم لفقدان هذا البطل وما بين الإصرار والعزيمة على الانتقام له ولزملائه ولجميع ضحايا العدوان الإسرائيلى الغاشم، واستمرت هذه المشاعر حتى ثأر الشعب وجيشه البطل لكل الشهداء في حرب أكتوبر 1973، ليرفع المصريون رأسهم عالية خفاقة، يرددون اسم مصر مقرونا بالعزة والكرامة والفداء.
ورغم أن الشهيد نعته مصر والعرب بل والمسلمون جميعا، ورغم أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، منحه رتبة الفريق أول ونجمة الشرف العسكرية أكبر وسام عسكرى في مصر، إلا أنه وحتى الآن لم يوف حقه، في الدنيا، لأنه صار رمزًا وليس مجرد شخص إنه رمز للتضحية والفداء والبطولة وإعلاء المصلحة العامة للوطن على مصلحته الشخصية بل وعلى حياته وروحه.
تلك المعانى السامية نحن في أشد الحاجة اليها الآن، لمواجهة ظروفنا الاجتماعية والاقتصادية، فالتضحية في سبيل الوطن وتقديم الروح والنفس رخصية للدفاع عنه ليس شعار فقط بل درس يجب أن نتعلم منه، كيف نبنى وطنًا قويًا يحمينا ونحميه، وهذا الدرس يجب أن نعلمه لأولادنا في الصغر وحتى الكبر لتثبيت الانتماء والولاء للوطن في قلوبهم.
وللشهداء عند ربهم أجر عظيم وضحه تعالى في قوله: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».. وقوله أيضا: «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ».. وقال سبحانه وتعالي: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ».. ويكون الأجر على قدر العمل والمشقة، فعظيم الثواب من الله تبارك وتعالى جاء لعظيم ما قدمه الشهداء، فبالشهداء تحيا الأوطان ويعيش الناس في أمان.
والتضحيات وإن كان أعلاها وأجلها وأوضحها ما كان في جبهات القتال، لكن أيضا تكون التضحيات على جميع المستويات، فالمعلم يقف على ثغرة مهمة من ثغرات الوطن يقوم على تعليم أبنائه، ويغرس فيهم المبادئ والقيم والمثل العليا، لأن الأوطان تبنى بالعلم وتهدم بالجهل فإذا ما تخلى المعلم عن دوره وذهب وراء مصالحه الشخصية لجمع الأموال من الدروس الخصوصية، تصبح العملية التعليمية مجرد تجارة بالنسبة له ولا يدرى أن بذلك يسهم في تدمير وطنه، وفى يظل فضل المعلم المخلص، على وطنه كبير بل عظيم، يضئ طريقها ويبنى أجيالها، يقدم الجهد العظيم والعطاء المتواصل، ويحترق من أجل أن يضيء طريق الوطن، فهو كالرسول كما قال أحمد شوقي.. قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا.
وهناك صنف آخر من الأبطال الذى يقفون على ثغرة مهمة من ثغرات الوطن يحافظون على صحة أبنائه ويقفون كخط دفاع أولى ومباشر ضد الأمراض، إنهم بالطبع الأطباء والممرضون والعاملون في الحقل الطبي، وتتجلى بطولاتهم في هذه الأيام في محاربتهم لوباء فيروس «كورونا» القاتل، والذى لايعرف له دواء حتى الآن، لكنهم يضحون بأنفسهم لحماية أبناء بلدهم، فإذا ما ترك الطبيب رسالته وبحث عن جمع المال واستغلال المرضى الضعفاء وابتزازهم، كان عامل ومعول هدم مباشر في سقوط وطنه.
والأمثلة على البطولات وأصحابها كثيرة، فالمحامى نصير الضعفاء والمظلومين إما أن يشارك في نصرهم أو يزيد من ظلمهم وابتزازهم، وكذلك الصحفى والإعلامى إما أن يكون صوتا للحق مدافعا عن بلده محاربا للشائعات، أو يكون معول هدم، والنماذج على ذلك لا تنتهى وليس انتهاء بعامل النظافة صاحب الرسالة المهمة والحيوية فلولاه ما سارت الحياة ولا دارت عجلة العمل والتنمية في أى بلد.
والخلاصة، أن حب الوطن يعنى حب أرضه وسمائه، مائه وهوائه، نعمل من أجله ليلا ونهارا، لأنه يستحق منا العمل والتضحية كل فيما يملك أو يعمل لحفظ ممتلكاته وموارده العامة والخاصة والمحافظة على قوتها ونظافتها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة في حب الأوطان، حيث قال عن مكة المكرّمة: «ما أَطْيَبَكِ من بلدٍ.. وأَحَبَّكِ إليَّ.. ولولا أن قومى أَخْرَجُونِى منكِ ما سَكَنْتُ غيرَكِ» وهذا الحديث الشريف يكشف تعلق وحب النبى عليه الصلاة والسلام لوطنه، وحنينه الدائم له، وفى هجرتِه إلى المدينة، وقف على مشارف مكة يودع أرضها قائلا: «والله إنى أعلم أنك خير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجتُ».