في أغسطس عام 2000، شاركت بالعزف في مجموعة موسيقى حجرة، في مدينة فايمر بألمانيا، كان حفلًا مهمًا حضره الرئيس الألمانى.. ولكن كان غريبًا لى آنذاك، عدم رؤية أى طقوس تختلف عن أى حفل عادى، فلا إجراءات تأمين، أو تفتيش، ولا ساعات طويلة نقضيها في المسرح قبل الحفل! بل ذهبنا قبلها بنحو ساعة، وهو الموعد الطبيعى قبل أى حفل تقليدي.. وأتذكر تهافتنا على النافذة، لنرى الموكب الرئاسى الذى تفاجأنا ببساطته، والتى تجعله أقل من موكب المحافظ لدينا!!.. أما في الحفل فقد جلس الرئيس بين الجمهور في الصف الأول، ولكن بلا أى تمييز، حتى أننا لم نستطع أثناء الحفل تحديد من هو الرئيس وسط الحضور!! مما جعلنى أنبهر بذلك، وفى نفس الوقت زاد من النظرة السلبية التى كنت أرى بها الحكم في مصر، وخاصة بعد أن عقدت مقارنة بالحفلات الرئاسية لدينا، والتى كانت تتطلب تواجدنا قبل الحفل بعدة ساعات، وكثيرًا ما كانت تعكر إجراءات التأمين مزاجنا، لذلك لم تكن المقارنة في صالحنا.. فنظرًا لدراستي في الكونسرفتوار منذ طفولتى المبكرة، كنت ممن يشاركون في الاحتفالات التى يحضرها الرئيس وقرينته في المناسبات المختلفة، وكم شاركت في عشرات الاحتفالات الرئاسية على مدى عمرى، في عصر الرئيس مبارك.
وشاهدته عن قرب في تلك الاحتفالات في أوج سلطته ومهابته، والكل يخشاه ويرتعش من حدوث أى خطأ قد يطيح به من منصبه، وكانت بالطبع حفلات ذات طبيعة خاصة، والجهد المبذول فيها أكثر من أى حفل آخر، في البروفات والتدريب لتكون في أفضل صورة، لتتناسب مع حضور رئيس الجمهورية.. والواقع أننى لم أكن أحب الحفلات الرئاسية في تلك الفترة، لما تسببه من توتر وإجهاد! بسبب الأمور المرهقة التى تتعلق بالروتين والتأمين، وتبتعد عن الأجواء التى يتطلبها الفن والإبداع.. ولكن رغم ذلك فهى مسئولية كبيرة تجعل كل من يشارك فيها في أشد التركيز والتوتر، ففى حضرة الرئيس الخطأ غير مقبول وربما يودى بمستقبل من يقع فيه، وهو ما جعلنا نستشعر كم الهيبة التى يتمتع بها الرئيس، الذى يعد أهم شخص في الدولة ويمثل رأس السلطة.. ورغم أننى كنت ممن غيبهم الإعلام عن كثير من الحقائق، فلم أر واقعنا آنذاك سوى من خلال نظارة المعارضة السوداء، التى غيبت أذهاننا عن أى إنجاز للحكومة أو للرئيس، وكنت ممن تمنوا تركه للحكم، وسعدت بالثورة ضده لعدة أيام، فقد حدثت إفاقة مع أحداث 28 يناير التى شاهدنا فيها الحرق والتخريب والتدمير، واستهداف المنشآت الحيوية والتاريخ والحضارة.. ومع مرور الأيام، أدركنا تدريجيًا حجم المؤامرة التى استهدفت إسقاط مصر والدول العربية لإعادة رسم المنطقة العربية من جديد، واستوعبنا كذلك أن إحدى الآليات التى استخدمونها لتحقيق أهدافهم كانت تشويه الرموز.. لقد أدركت أننا بالفعل دولة تختلف عن غيرها، فنحن بحكم التاريخ والجغرافيا دولة مستهدفة، ورئيسها مرصود من أعداء الداخل والخارج، ولا يمكن أن نتعامل كغيرنا.. وأيقنت تزييف الإعلام وكم تضليله، حين كنت أحاول - بعد 28 يناير 2011 - المشاركة في البرامج، للرد على أكاذيب أو الإدلاء بشهادتى في وقائع تخص رجال الشرطة من أهلى، تنفى ما كان يتردد عن قتل الشرطة للمتظاهرين، أو قيامهم بفتح السجون لتهريب المساجين، فلم يكن يسمح إلا بما يريدون لتنفيذ المؤامرة!.. فأدركت أن اللقاءات والمداخلات مرتبة مسبقًا، وليست طبقًا لادعاءاتهم مشاركات لحظية!!.. أيقنا مما حدث أن الهدف إسقاط رأس الدولة ورموزها وتشويههم، حتى يضيع الاحترام والهيبة لأى شيء.. فرأينا التطاول على الرئيس مبارك، أحد أهم أبطال حرب أكتوبر وقادتها، ووصمه بما يتعارض مع تاريخه العسكرى، مما تسبب في تعاطفى معه، ورؤيته بمرآة مختلفة أكثر إنصافا، فتعمقت في القراءة عنه، وكلما زادت معرفتى زاد حبى له واحترامه، حتى أننى بعد أن كنت أعارضه فترة حكمه من خلال مقالاتى بجريدة «صوت الأمة»، أصبحت أدافع عنه، وكتبت مرات عديدة محاولة إنصافه، وناشدت الرئيس السيسي إعادة الاعتبار له كأحد أهم قادة نصر أكتوبر، كذلك كنت أول من يدافع عن زوجته السيدة سوزان مبارك الصابرة الصامدة التى حملها الجميع (سواء كارهى مبارك أو محبيه) كل الأوزار!!.. مات الرئيس مبارك، وتعاطف الشعب مع توديعه بما يليق بتاريخه العسكرى المشرف، وتبارى الجميع في الشكر والامتنان لفخامة الرئيس السيسي، الذى أعاد بما فعله هيبة الرموز واحترامهم، وأحيا القيم النبيلة داخل المجتمع المصري، وصفع من أرادوا محو تاريخ النصر، بإذلال أحد أهم قادة حرب العزة والكرامة.. فقدم للتاريخ صورة مشرفة، أعادت لنا فخرنا بذكرى النصر، وأعادت لنا مصر بهيبتها وشموخها كما نحبها.