الجمعة 20 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

أنطولوجيا الوجود في رواية "حتى يجد الأسود من يحبه" لمحمد صالح البحر

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قَدَّمَ محمد صالح البحر عبر مسيرته الروائية أنماطا خاصة من التجريب الروائي، فكانت رواياته «حقيبة الرسول» 2010م، و«موت وردة» 2013م، و«نصف مسافة» 2014م، علامة فارقة على محاولة تقديم رؤية فنية يمتزج فيها الإنساني والروحي مع الاجتماعي دون نسيان المتغير التاريخي، ليقدم رؤية خاصة أشبه بشهادة فنية على مجريات الأحداث، وعلى ما يصيب الإنسان من وجع روحي في هذه المتغيرات، وبدلا من السرد المُكَدَّس لتقنيات التجريب الروائي الخارج عن المألوف، صنع حالة من حالات التواصل مع القارئ، ليوجد بداخله الشغف تجاه شخصياته ومعطياتها وأحداثها، بيد أنه مع روايته «حتى يجد الأسود من يحبه» 2019م، ينتقل لمحطة جديدة من محطات التحليق في الأفق الإبداعي، ليدخل في دائرة «الأنطولوجي».
يُعَرِّف "هنترميد" الأنطولوجيا بأنها «لفظ يستخدم أحيانا بمعنى مرادف للميتافيزيقيا لكنه يدل في صورة أدق على ذلك الفرع من الميتافيزيقيا الذي يدرس الوجود في أكثر صوره تجريدا فما طبيعة الوجود بما هو موجود؟ وما معنى أن يكون الشيء موجود؟»، وأبحاث الوجود، واقتران ادراك الوجود بكون الذات البشرية هي التي تقوم بفعل معاينة الوجود ذاته، ومن ثم نصبح أمام معضلة كيف يمكن ادراك الوجود بمعزل عن ادراكنا لذاتنا، تلك القضية اتخذت العديد من الأشكال والصور بين الفلاسفة مثل (هيجل) و(هوسرل) و(كانط)، إلا أنها اتخذت بعدا فينومينولوجيًا مع (سارتر)، فينقسم الوجود إلى وجود في ذاته، ووجود من أجل ذاته، بيد أننا لا نحتاج هنا لأن نقدم مبحثا عن الوجود ومفاهيمه المختلفة، لأن اعتقادي أنه في عالم السرد عندما يكون المؤلف حاملا بعدا وجوديا «أنطولوجيًا» فإنه يقدم رؤيته الخاصة تجاه هذا الوجود، وتكون مهمة الناقد هي استكشاف واستكناه هذا المفهوم، الذي لا يُقدَّم هنا صراحة، وإنما ضمنا عبر مجموعة الأحداث والشخصيات والتفاعلات الموجودة داخل الرواية، ومن ثم فهناك فارق بين أن تكون الرواية ذات رؤية أنطولوجية، من أن تكون تابعة لأحد مذاهب الوجودية سواء القديمة أو الحديثة، ونوع الوجود الذي يتم البحث عنه هنا هو وجود براءة الروح ونقائها إن كان موجودا.
فما يقدمه "محمد صالح البحر" في روايته هنا من رؤية تجاه وجود الإنسان في هذا الكون، معني بالشعور الروحي للإنسان المنسحق والمتشظي في مواجهة الحياة، لكنه ليس التشظي والانسحاق المعتاد في روايات الاجتماعيين، من واقع فقير وبائس وغيره من القوالب النمطية التي اعتدنا عليها في الرواية العربية، وإنما يبحث في نوع جديد من أنواع الانسحاق البشري، يبحث فيما نفعله في بعضنا البعض عندما نتحول لصياد وفريسة لصيد غرائزنا من بعضنا البعض، أو عندما تهيمن معتقدات معينة على العقل البشري فيصنع نتيجة لها ضحايا أخرين، وهكذا في نوع من البحث الفلسفي الخاص في الحياة وكيفية معيشتها. يتحول (محمد صالح البحر) هنا لفيلسوف أكثر منه روائيا، لطبيب نفسي يختبر دواخل شخصياته المعذبة، حيلته الروائية من حكاية وحبكة، تتجلى في جمع أشخاص اختار خلفيتها بدقة وعناية، ووضعها جميعا في عمارة واحدة، في مكان مجهول لا نعلم عنه إلا أنه يطل على البحر، وأمامه مجموعة من الصخور يُطلَق عليها «قلعة العشاق»، وعن تاريخ هذه العمارة تقول (فتحية): «ولم أبخل على العمارة بشيء واحد، أنفقت فيها كل ما إدخره الرجل الأربعيني في حياته وورثته من بعده، خصصت طابقها الأرضي لي، والأخير لابني كامل إذا ما أتى في يوم من الأيام، وسمحت له الحياة أن يكبر، وأقسمت ألا يقيم في الطوابق الثلاثة التي بقيت بيننا، إلا مَن لمست روحه ألم الوحدة، أو طردتها الحياة إلى غربة قاسية، وكأنها روح سوداء في عالم لا يكف عن ارتداء الأقنعة الملائكية التي لا تخصه.»
هذا النص الكاشف عن نوع الوجع الروحي الذي يبحث في تفاصيله وثناياه الروائي محمد صالح البحر، عبر شخصياته المقدمة هنا: (وليد)، و(فتحية)، و(ليلى)، و(موسى)، كشخصيات رئيسية، وتتماس معها شخصيات ثانوية بدرجات متفاوتة، كـ(ميرو)، و(مريم)، و(نوارة)، وهذه الشخصيات الرئيسية ثم الثانوية لكل منهم حظه من سواد يغلف روحه ويمنعها من النقاء البهي، فيبدو لمن ينظر إليهم من خارج النظرة الوجودية أنه أحياء، بينما يعيش كل واحد منهم موته الخاص، فالروح السوداء وجعها على الإنسان أكثر من الموت ذاته، فـ(فتحية) تعرضت لمحاولة الاغتصاب على يد والدها الذي بخل وضن عليها أن يسلمها زوجة لمن أحبته، وانتقمت لذلك بقتله وتفننها في طريقة قتل والدها، ثم مِن ميراثه أنشأت هذه العمارة، وكنوع من التطهير خصصتها للمنبوذين روحيا في الحياة، و(ليلى) كانت ضحية تحولها للسحاق ولم تستطع أن تعيش حياتها السوية، وموسى ضحية اصابته بالسرطان والصراع في انفاق المال المدخر على صحته مع معرفة أن الأمر لن يؤدي إلا إلى تأخير أمد المعاناة، أم الإبقاء على المال وعدم الحصول على العلاج لكي يكون تضحية كاملة من أجل ابنتيه وزوجته، و(ميرو) تركها والدها ورحل في البحر، وتعيش محاولة التواصل مع (وليد) لكي يعوضها عن الحبيب والأب، و(وليد) ضحية فكرة اللعنة التي سيطرت على والده عندما ماتت أمه وهي تنجبه، ثم اعتداء (سعدية) عليه ومحاولته الانتقام من هذا الاعتداء من كل الفتيات، و(مريم) ضحية تنازلها عن الحب واختيارها المنصب والجاه، و(نوارة) ضحية فقدانها لذاتها وعدم اختيارها ما ترغب في اختياره وهكذا، دوامة من دوامات الوجع الإنساني التي لو بحثت فيها ستجد أن سببها ليس الواقع الاجتماعي أو السياسي أو الفقر والغنى – دون تبرئة ذلك، وإنما السبب الرئيسي هو عدم مراعاة بعضنا لبعض ووضعنا في عين الاعتبار أدميتنا، وكيف نصل أحيانا في نظرتنا لبعضنا البعض إلى انزياح الإنساني لنتحول في نظر بعض إلى سلعة، تماما كقميص نرتديه ثم نمزقه بعد ارتدائه لظهور قميص أخر أكثر موضة أو عصرية بعده، أو أي شيء يمكن أن نلقيه ونلتقط غيره بسهولة ويسر، دون أن نضع في الحسبان ندبات الروح، ولو أن كل واحد منا فتش بذات المقدار من التحقيق الذي يجريه المؤلف على شخصياته في نفسه وفي داخل ثنايا روحه، فماذا سيجد في روحه من ندوب وجروح؟ قد يكون بعضها اندمل ظاهريا وهو يُخفي أسفله طبقات من الوجع البعيد القادر على هلاكه في أية لحظة.
وأما تقنية الرواية في إجراء هذا الاستكناه فهي تقوم على محورين أساسيين، الأول: الوصف الشديد المطول، وهو وصف يبدأ غالبا من الواقع المحيط، ثم ينسحب لانعكاسات الإدراك والشعور على هذا الواقع، ثم يتم تغليفه بالرؤية الفلسفية، قبل الانتقال للتقنية الثانية، وهي الدخول في الحوار مع الذات، وتعريتها أكثر وأكثر أمام القارئ، من أمثلة هذا ما يرد على لسان (وليد): «ورحت أسمع أصوات النحيب تخرج من خلف الأبواب المغلقة لشقق السيدة فتحية والسيدة ليلى والسيد موسى، وبدت كلماتهم المتناثرة في الفضاء الضيق، المغلق على أرواحهم الحبيسة بالداخل، مثل عويل جنائزي لعدودة واحدة، يبكي الفقد والوحدة وعدم القدرة على مواصلة الطريق، ولا يكف عن طرق الأبواب المغلقة، والجدران المصمتة، والأسقف التي أحكِم إغلاقها فوق رؤوسهم، استجداء لخلاص أرواحهم وصعودها إلى السماء، وكأن خلاصهم الوحيد قد صار بيد الموت وحده، وكنت أود لو أنني أستطيع الوقوف أيضا في مواجهة أبوابهم المغلقة، لأخبرهم أن الموت ليس سوى عبور إلى الوجه الآخر للحياة، (...) وربما لأنني مثلهم، لا أزال أقف على الجسر، في المسافة الفاصلة للعبور بين الوجهين، لم أحيا كما ينبغي للحياة أن تكون»
بهذا الأسلوب المدهش في كيفية تقديم السرد، والأحداث التي أغلبها يقع في داخل النفوس وليس على مجريات الواقع، فمجمل كلا من الأحداث في الواقع، والحوار بين الشخصيات وبعضها البعض يكاد يكون قليلا جدا مقارنة بمجمل الانفجارات والتحولات الوجودية بداخل الأرواح المعذبة المحبوسة داخل الفضاء النصي في ثنايا الرواية، وهي تقنية فنية أيضا في تقديم مقدار الوحدة والغربة الداخلية التي يعيشها كل منهم، فالحوار مع آخر به قدر من الراحة لا يستطيع أفراد الرواية الوصول إليه.
كما يتماهى المؤلف الضمني في النص عبر انتقالات الحكي، فيسلم الحكي من راو إلى أخر مرة واحدة وبدون مقدمات وفجأة، حتى أنك قد تضطر للعودة لتعرف من الذي بدأ لكي يحكي هنا، فهي نوع من الروايات الذي تحتاج قراءته إلى تركيز شديد، وإلى جهد من القارئ لكي يكمل العديد من الفجوات الناقصة بين الحكايات، وبين انتقالات الزمن التي استباح المؤلف المضي فيه من الأمام إلى الخلف، ومن الوسط إلى الأمام وهكذا، كل معادلات الانتقال في الزمن الممكنة داخل الأنماط الروائية قام بفعلها تقريبا، فهو يختار لحظة معينة يبدأ منها سرده، ثم يهيم بحسب ما يوجهه قلمه، فقد يعود للخلف أو يمضي للأمام، أو يتوقف في ذات اللحظة فيستجلى تبعاتها في الأمام والخلف مرة واحدة، وقد يمضي بعدها لشخصية أخرى أو يتوقف ليعود في ذات الحدث بعد مضي الكثير من الحكايات فالخط الأساسي للحكاية لا يتعدى بضعه أيام، منذ معرفتنا بالكاتب (وليد) ورغبته في اللحاق مبكرا قبل (فتحية) إلى المخبز انتهاء بعلاقته العابرة مع (نوارة) والتي يأخذ جهدا ووقتا حتى يتذكر من هذه الملقاة على سريرة عارية، وبين هذا وذاك تأتي (ميرو) ثم تموت (فتحية)، يمكن تقدير هذه المدة زمنيا بأسبوع واحد، لكن من بين سيل الذكريات الواردة خلال هذه المدة نبحر في سنوات وسنوات من الحكايات الماضية والمستقبلية.
نستطيع إذن بعد هذا القدر من التناول أن نحاول فك شفرة عتبات النص، فنحاول تحديد مقاصدها الأساسية وبنيتها الدلالية؛ لنقول هنا أن الأسود المقصود في العنونة ليس اللون المعروف، وإنما هو سواد الروح، ذلك الذي يصيب الإنسان فينزع عنه ملائكيته ويحوله لشيطان يتلذذ في استغلال وتعذيب أخيه الإنسان، ليحاول أن يعديه بترك جروح في روحه، فالعجيب في جروح الروح أن غالبا المصاب بها لا يستطيع الانتقام ممن جرحه، فيتحول إلى الانتقام من الآخرين، قد يكونوا أبرياء أو غير ذلك، ورغم كل هذه العملية السوداء من اظلام وإطفاء لوهج الألق والبهجة والاستمتاع بالحياة وبالتواصل مع بعضها البعض الذي نقوم به دون أن نشعر أحيانا تجاه بعضنا، إلا أننا نحاول قدر الإمكان إنكار ذلك، ونحاول الظهور بمظهر الملائكية، ومن ثم فالعنونة تتماس مع فكرة تعرية وإظهار سواد النفوس ودواخلها، ونترك الباب مفتوحا بين التساؤل أو الخبر أو الإنشاء عن هذا الواقع الذي نغفله في نفوسنا هل يجد من يحبه؟ أم يجب تغييره مسبقا حتى يمكن أن يحبه أحد؟ أم يجب أن نتصالح معه أم ماذا؟ كل تلك الأسئلة متضمنة في العنونة.
بيد أن الأكثر مراوغة من العنونة، هي عتبة الخاتمة، التي تبدأ بعنوان جانبي يقول: «بعد مرور مائة عام»، والضاربة في جذور الخيال والفنتازيا إلى أبعد أنواع التحليق الممكنة في استحضار أساطير خرافية، ليتم تعبئة الواقع في أسطورة، وليس تحويل الأسطورة إلى واقع، وخلق اسطورة جديدة، وإنما تخيل أن كل هذه الأحداث مضت منذ مائة عام، ومن بين الكائنات ينبعث شبح الكاتب (وليد) لكي يكتب من جديد عن هذه الحكايات، ليقدم اسطورة لكنها أسطورة مهزومة مسبقا، وأسطورة ضاربة في عمق البحث عن الخلاص دون الوصول إليه، مما يجعل القارئ وهو ينهي قراءته للرواية يدخل في حالة عميقة من السؤال والجدل حول نفسه، أين أنا من كل هذا؟ وماذا يمكن أن أكون؟ هل أنا صياد أم فريسة لغرائز الأخرين وأوجاعهم؟ هل ماتت شخصيات الرواية أم أنها حية بيننا كل يوم؟ هل بعد مائة عام أو قبل مائة عام كان الأمر ذاته أم اختلف أم سيختلف؟