التقيت نساء من بلدى ومن بلاد العرب والعالم، في مشروعى سماع أصوات وقصص نساء قياديات ملهمات منذ عقدين ويزيد، تقصدتُ من خلاله محاولة كتابة تاريخهن المنسي، فيهن امرأة استثناء لن أنسى ما منحته لى من دروس عظيمة، السيدة عائشة زريق (مواليد بنغازى ١٩٤٩م)، رائدة التنمية الريفية، كنموذج مفارق في وعيها المبكر، ولامرأة قاربت واقع العمل في الأرياف، نزلت على الأرض، تتنقل وتتابع واقعا معيشا لشريحة هشة، كانت المعلمة، والمرشدة الزراعية، والإخصائية الاجتماعية، والمدبرة الاقتصادية، والإعلامية في آن لفتيات صغيرات لم يغادرن بيوتهن لضعف إمكانيات أسرهن، فكانت عائشة من تحضر إليهن، وفى زمن ظروفه الاجتماعية والاقتصادية عسيرة، ما زال الفقر والجوع والمرض يجوس بيوت الأحياء الفقيرة، مع مبتدأ عقد الاستقلال (١٩٥١م )، سُجلت ليبيا كأفقر بلدان العالم بلا مصادر دخل، خرجت من استعمار إيطالي، ثم إدارة استعمارية بريطانية، عدد المتعلمين بها قلة، كوادرها في مجالات عدة أرقامها لا تكاد تذكر على مستوى البلاد، ولذلك تدافعت جهود آباء وأمهات، مُؤسسين لبنة دولة ليبيا.
حين قابلتها - بعد اتصال هاتفي - لأول مرة في بيتها (شارع بن عاشور. طرابلس)،لأدون بعضا من سيرتها، كانت في سِنى تقاعدها، هى من فتحت الباب (سأنتبه لاحقا أنها تعانى مرضا في ساقها)، وبادرتنى بعد ترحاب عامر بالكلمات الجميلة، وابتسامتها المُشرقة، «صوتك أكبر منك، فاجأتينى طلعتى شابة صغيرة»،فضحكتُ، وأجبتها مباشرة، صدقى صوتى أرجوك، فضحكتْ، ودعتنى إلى صالون بوسط بيتها وأشعرتنى كأنى فرد من عائلتها، وأخذنا حديثا مسجلا حضرته ابنتها د. سهير، استمر ما يقارب ثلاث ساعات، مجيبة عن أسئلتي، استرجعتْ فيها حكايات عن طفولتها، ودراستها، ومعلماتها، وأرياف نزلت بها وخارطة عمل انتهجتها، بل وفلسفة حياة عملت وفقها، وفى ظنى أنها ونماذج أخرى من جيلها، جيل النهضة النسوية الليبية، عملن وفق مشروع ترسمن خطواته، ليس منشدهُ فقط فك الأمية، وتخريج معلمات، بل ليكون جامعا وعلى مدى طويل بين العمل الأهلي، والمدني، والإعلامي، واستطعن جعل مؤسسات حكومية تشريعية، وتنفيذية تستجيب لمطالباتهن، ولتطلعاتهن التقدمية للمرأة. ومما سردته لى أنها كتبت في جريدة الزمان عام ١٩٦٠م، مقالا شديد اللهجة بعنوان: أين أنتِ يا وزارة الشئون الاجتماعية؟، مُلحة على ضرورة دعم شريحة المكفوفين، وتابعت تلك الشريحة ومدى تحقق ما نقدته في مقالها، حدثتنى عن لقاءاتها بوزير الزراعة عثمان الجربي، شارحة له احتياجات قطاع التنمية الريفية، مختصة الفلاحات الصغيرات بعناية أن يتحقق لهن التعليم والعمل، في مجتمع ريفى كانت تنزل وترصد، وتتصدى لضرورة توفير فرص العمل لآبائهن، حتى لا تجبر الفتيات على ترك مقاعد الدراسة، أو الزواج المبكر، وهن في سن لا تؤهلهن للعمل الشاق، ستوفر دكانا لمن سيرفض إدخال بناته للمدرسة، وسترجع زوجة إلى بيتها بعد أن اشترطت توفير مدخول يسد رمق أطفالهما.
انتبهت السيدة عائشة كناهضة نسوية مبكرا لأهمية دعم نشاطها المدنى بالعمل الإعلامي، دخلت مدارس الأولاد بالأرياف، وحدثتهم عن حب الوطن، والعمل التطوعى بغرس شجرة، رسالتها التوعوية الوطنية، وإعلان الموقف من الحياة بالنضال لأجل الإصلاح والتغيير كان ديدنها، فهى منذ سنتها الثالثة بمعهد المعلمات كتبت مقالا سياسيا بمجلة المعهد، اسمها (المعلم) والتى أشرف على تحريرها الأستاذ عبدالمجيد قطامش من مصر، حين قامت ثورة مصر ٢٣ يوليو ١٩٥٤م، دعت إلى ضرورة تحرر كل الشعوب العربية من الاستعمار، وإعلان وحدتها معا لمكافحة الاستعمار السياسى والاقتصادى القادم، ومن جانب آخر تطوعت لتقديم برنامج عن الثقافة الغذائية، وفقرة الاقتصاد المنزلى مع أول مذيعة راديو الرائدة حميدة بن عامر، وشجعتهما المناضلة النسوية «حميدة العنيزي»، قدوتها وملهمتها التى دفعت بها في توقيت حماسة وموقف الليبيين الداعم للثورة الجزائرية، بأن تقوم بدور فدائية جزائرية، ابنة لعائلة فُقدت أثناء غارة لطائرات المحتل الفرنسي، وقد كتب النص (الفجر الجديد) للراديو الأستاذ حامد العبيدي.
في تاريخ الرائدة التنموية عائشة مشاركات خارجية حافلة مواكبة لكل جديد، وإسماعا لصوت المرأة الليبية الفاعلة والمؤثرة في محيطها، في مئات من صورها التى احتفظت بها وشاهدتُ بعضها، لكل منها حكاية جد ومثابرة وانفتاح، بمصر صورة تجمعها بالزعيم جمال عبدالناصر، وتعرفت على أمينة السعيد، وسهير القلماوى أول فتاة مصرية تدخل الجامعة، تواجدها ببيروت رفقة ممثلات عن الاتحاد النسائى الليبي، ومن تونس مع النسوية راضية الحداد، أما صورها وهى صحبة الفتيات الريفيات، فكلها صور في مواقع عمل، وتدريب في مراكز التنمية الريفية، ومنها مع من دربتها وتلميذتها كأول منشغلة بالمجال بطرابلس السيدة مريم الكانوني، مثلت عائشة زريق نموذج وامرأة استثناء في اعتبارها التنمية الريفية مجالا لتمكين اقتصادى للمرأة قبل أن تدبج ذلك منظمات دولية وعربية، نتذكرها اليوم للحث على اتخاذها منارة اهتداء، وقدوة مسلك بجهودها على الأرض مع النساء المهمشات، وفى ليبيا اليوم طريق بناء عسير ليتيسر، ويتحقق تمكين وتعزيز مواقع جديرة للنساء، يحتاج منا أن نترسم مدرستها ونهجها.