يموج الحال مكانًا وزمانًا بمتغيرات عاصفة لثوابت راكنة قدم الزمان، وتفرض كل الاحتمالات وجودها لتملى على قلم التاريخ محوًا للثابت وتثبيتًا للمتغير.
ولأن الثقافة المكتوبة هى أول اختراع علمته الحضارة المصرية لغيرها من الحضارات.. استوجب علينا اللجوء إلى الكتابة لاستدعاء انتصارات المصريين منذ التاريخ، تلك الانتصارات لم تكن طمعًا في أراضى الغير أو جورًا على حقوقهم، إنما حفاظًا على الحق ودعمًا للعدل، هكذا - دائمًا - كان جيش المصريين ابن حضارة السبعة آلاف عامًا من الأخلاق.
الواقع - الآن - في عوز لإعادة استدعاء قيم وأخلاق من أجل الحق والعدل للحفاظ على ما تبقى للإنسان من إنسانيته.
ستنتقل عبر جولات جيشنا تاريخًا ومكانًا نخلق من تلك الحلقات المتوالية جسرًا موصولًا بين فرساننا على مدى التاريخ وشبابنا الحالى ساعد هذه الأمة وعقلها وصانع مستقبلها.
أسباب دعم أوروبا لرجلها الضعيف ضد الجيش المصرى
جاءت المفاجأة من جانب حكومة فرنسا أنها لم تكن تطلب من الأميرال روسين تهديدا لروسيا أو مصر أو تركيا على الإطلاق بل لم تتجاوز مطالبها الحد الدبلوماسى وفقط والتى هى في إطار دبلوماسية الوساطة الودودة، بل إن فرنسا كانت تلّح على تركيا ترك ولايات الشام كلها لمصر وليس ما عرضه روسين فقط من صيدا وعكا ونابلس وطرابلس بل كامل ولايات الشام، وزاد روسين من الشعر بيتا عندما اجتزأ من أسطول فرنسا قطعًا بحرية تقطع البحر أمام امدادات إبراهيم باشا على شواطىء الشام وطلب من زميله ماندفيل السفير الإنجليزي لدى تركيا أن يحذو حذوه بالوقوف أمام الأسطول المصرى وكانت إجابة ماندفيل شديدة الانضباط: «أنا أتفق معك في الوقوف أمام الجيش المصرى لأن هذا يتفق وسياسة إنجلترا إلا أننى لم أتلق أوامر بذات الشأن من إنجلترا» مما يعكس مدى تطبيق الدبلوماسية الإنجليزية لأقصى درجات الانضباط، وبالمثل كانت العسكرية المصرية أكثر انضباطا ولا تكترث لتهديدات روسين الجوفاء فكان رد قائد الجيش المصرى: «إنه يقيم حيث يقيم الآن في كوتاهية بأمر والده، وأنه لا يتقدم ولا يتأخر على هواه بل طبقًا للأوامر التى يتلقاها من مصر وحدها» وتلك إحدى الرسائل الشديدة الانضباط التى يوجهها الجيش المصرى لأوروبا - رغم كونه محل تهديد من أهم القوى البحرية حينئذ -، بل إنه أذاع خبرًا في أزمير بأن الجيش المصرى مقبلًا عليها مما دفع القرى والمدن المجاورة لكوتاهية إلى الانصياع للعلم المصرى حتى سلم والى أزمير طاهر باشا حكم أزمير إلى أحد معاونى القائد إبراهيم باشا وهو أمين أفندى أحد كبار الأعيان بأزمير ومن الموالين للجيش المصرى، وربما انتهز الروس تلك الفرصة ذريعة أمام أوروبا للإبقاء على أسطولهم بالقرب من الأحداث في مضيق البوسفور، وأيضا استغل السلطان المهزوم سيطرة الجيش المصرى على أزمير لإرسال رسوله أحمد بك لزيارة الأسطول الروسى وعيّن السلطان على جيشه الصدر الأعظم رءوف باشا، وهنا انتصرت الدبلوماسية الروسية العادية على نظيرتها الفرنسية المتعجلة لأن رءوف باشا من الموالين لقيصر روسيا والمؤيدين لسياسته، فغضب من تلك الترقية الأميرال روسين وطالب بعزل السلطان التركى، وكتب لفرنسا: «إن الشعب في سبات عميق، فهو أعجز من أن يفعل ذلك» وكأنه يطلب السماح من بلاده بالتخطيط لعزل السلطان، وربما نال بعضا من الرضا من جانب بلاده في رأيه، فأرسل إلى السلطان إنذارًا بابتعاد الأسطول الروسى خلال ٢٥ ساعة من مضيق البسفور، وإلا يعتبر اتفاق ٢١ فبراير لاغيًا، ولأن الاتفاق كان يميل تجاه مصالح تركيا دون مصر، استجاب السلطان التركى وطلب من ريس أفندى مخاطبة الحليف الروسى بالابتعاد بما يضمن تنفيذ اتفاق ٢١ فبراير، لكن الجنرال مورافيف والأميرال لازاريف أكدا على أن الجيش المصرى على مسافة خمسة أيام من اسطنبول وهى مسافة لا تكفى لتأمين العاصمة التركية، لكن ريس أفندى المكلف برسالة تعنى إبعاد الروس عن المشهد لتنفيذ اتفاق ٢١ فبراير لصالح تركيا، قد أقنع الروس أن اسطنبول لها وسائل حماية وتأمين ضد هجوم الجيش المصرى حال حدوثه، وتلك رسالة السلطان أيضا للأميرال الفرنسى روسين، أما انجلترا فكانت ترى الأمر يخص استقرار مصالحها في الهند حيث ارتأت أن بقاء تأمين طريقها للهند عبر تركيا أوفر حظا في النواحى التأمينية من كونها تابعة للعرب لذا كانت تقر اتفاق ٣٢ فبراير الذى يضمن لمصر ولايات في الشام عدا دمشق وحلب اللذين لهما تأثيرًا على بغداد إذ هما كانا تحت سيطرة مصر وذاك ما تخشاه إنجلترا أيضا، فقد كتب بالمرستون إلى ويليام كامبل سفير انجلترا في كابل: «إن الشروط المعروضة على محمد على حسنة جدًا مادامت تحرمه من دمشق وحلب، وهما الطريق للعراق» وعن المشروع العربى الموحد الذى تنادى به مصر يقول: «وقد كان قصده تأليف مملكة عربية لجميع بلاد العرب والمشروع جليل الشأن بذاته لولا أنه يقضى بتقسيم تركيا، فلا يمكن أن نسلم به» وهو يميل إلى التعامل مع تركيا لحماية المستعمرات بدلا من أى حاكم عربى: «أضف إلى ما تقدم أن تركيا أفضل دولة تملك طريق الهند فهى أفضل من أى ملك عربى يقوم على هذه البلاد.. والواجب علينا أن نساعد السلطان على أن يعيد تنظيم جيشه وأسطوله وماليته فإذا استطاع أن يعيد النظام لتلك الولايات الثلاث استطاع البقاء» كان يقصد الشام والعراق ومصر.
وفى التالى إن شاء الله سنوالى استعراض لبقية أسباب دعم أوروبا لتركيا ضد مصر.