تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
عشر سنوات على إقامتى فى القاهرة شهدت خلالها تحولات جذرية فى الحجر والبشر، فالبشر يزدادون تحجرا وجمودا بينما الحجر يزداد تحملا ويتجلى حنوه فى ما يبثه من جماليات بصرية تعيننا على تحمل مشاق الزحام وإزعاج الأبواق التى تحتاج حقا لوقفة حاسمة ونظم انضباطية فى ترشيد استخدامها، كما يقول فوكو «راقب وعاقب». فى الإسكندرية وقبل أكثر من 10 سنوات، كان اللواء محمد عبد السلام المحجوب رحمه الله، قد سن قانونا لمنع استخدام الأبواق فى شوارع الإسكندرية، وفرض غرامة لذلك بالتزامن مع تجميل المدينة وإحياء كورنيشها، وكانت النتيجة أن السير فى المدينة كان متعة سواء سيرا على الأقدام أو التنزه بالسيارة. اليوم بات السلوك العشوائى لدى المصريين أسلوب حياة!! والضغط على البوق والتزاحم والسير ما بين الحارات المرورية أمر مألوف وطبيعى!!
ولا أنكر أننى والكثير من سكان وسط القاهرة فى أعقاب ثورة يناير، باتت لدينا رغبة عارمة فى الهجرة أو الفرار من جحيمها الذى قوامه التلوث والضوضاء والاضطرابات وإغلاق الشوارع المؤدية إلى منازلنا والتشوه الجمالى الذى أكمله السارى الطويل الخالى من أى مظهر جمالى فى منتصف «الكعكة الحجرية»، وجود العلم المصرى أمر رائع، لكنه لم يكن أبدا فى موقعه أو يتناسب مع المنظور المعمارى للميدان! وحمدا لله نترقب طوال الأيام الماضية إزاحة الستار عن مسلة رمسيس الثانى أو مسلة ميدان التحرير!!
تتعلق أعيننا كبارا وصغارا بهذه القطعة التى تحمل تاريخ آلاف السنين، وتذكرنا بعظمة أجدادنا وبلادنا، لدرجة أنك ما أن ترى المسلة فربما تردد كما كان يقول يوسف بك وهبى: يا للهول! أو كما يقول نيتشه: أيها الكوكب الطافح بالكنوز!
فكل طفل يمر بالميدان يوميا، خاصة وأنت تعبر كوبرى قصر النيل بكل رقيه، والذى لا تضاهيه حداثة مبانى التجمع الخامس المستنسخة، يستحضر الكثير من الصور والتاريخ والعظمة، والكثير من الأسئلة التى يطرحها على أبويه حول تاريخ المسلة، أهناك أعظم من ذلك الحديث؟ مرحبا بالتساؤلات التى تفتح الآفاق وتنمى الوعى.. علينا الاهتمام برقى الإنسان قبل الاهتمام بإطالة عمره!
كل يوم أمر بالميدان أتحضر لتلقى أسئلة ابنتى وأذاكر للإجابة، وأرقب بفخر تعلقها بالمسلة، بينما يحاورنى سائق التاكسى ويسخر فى البداية من الميدان الذى يحير الحكومة، «مش عارفين يعملوا فى الميدان أيه؟»، والحقيقة عادة لا أقوى على الجدال وأحفظ طاقتى للجدال مع ابنتى الكبرى، لكننى فاجأته بسؤال: هل ذهبت للأقصر وأسوان؟ فقال لى: لا! قلت له: أليس من الجميل أن ترى المسلة هنا؟ قال: نعم بالطبع، قلت: هل ميادين أوروبا وأمريكا أفضل أن تتزين بمسلاتنا، قال: لا طبعا، والله شىء نفخر به! يا ريت كل الميادين تكون فيها مسلات وتماثيل فرعونية!
بالطبع زيارة ربوع مصر ومعالمها السياحية أمر مهم، ونحرص عليه جميعا، فكل شبر منها له جماله ورونقه الخاص، لكن المرور اليومى أمام مسلة لرمسيس الثانى هو حقا أمر مختلف!! أعول عليه كثيرا فى تغيير بعض من سلوكيات الأجيال الجديدة. من الصعب حقا أن تكون المسلات موجودة فى أشهر ميادين العالم ولا توجد مسلة واحدة فى أى ميدان فى مصر!
كل يوم أرقب شبابا وشابات يقومون بكسب رزقهم بتصوير المارة على كوبرى قصر النيل، ولسان حالهم يقول: «إضحك الصورة تطلع حلوة»، يمسكون بأجهزة إضاءة دائرية وبيضاوية ومربعة، ويجهزون العشاق لالتقاط الصور على النيل الساحر، وبعد أيام ستظهر المسلة فى خلفية الصور!
بالأمس القريب شاهدت منظر المسلة، وقد انتصبت وتكتسى بقماش أبيض تطل علينا ببهاء، لتحقق التكامل الجمالى البصرى مع كوبرى قصر النيل والمتحف المصرى، المسلة يبلغ طولها نحو 19 مترًا، كما يبلغ وزنها 145 طنًا، كما يبلغ وزن القاعدة الخرسانية التى تم تثبيت المسلة عليها نحو 600 طن، والحق أن شركة المقاولون العرب التى نفخر بها وبأعمالها فى كل أنحاء العالم العربى وفى قارة أفريقيا، والتى قامت بجهد كبير فى تركيب وترميم المسلة بعد نقلها من منطقة صان الحجر الأثرية بمحافظة الشرقية.
المسلة منحوتة من حجر الجرانيت الوردى، وتتميز بجمال نقوشها التى تصور الملك رمسيس الثانى واقفًا أمام أحد المعبودات، بالإضافة إلى الألقاب المختلفة للملك.
سيتحول ميدان التحرير إلى مزار سياحى بألق جديد، وسيكون التجول فى منطقة وسط البلد أمرا يبعث على البهجة، لكن الأهم من ذلك هو منع ضوضاء السيارات وتنظيم حركة الحافلات والسيارات بالشكل الذى يسمح للمارة والركاب بالاستمتاع بالشكل الجمالى للميدان، وتنظيم مسارات مرورية للمشاة. وبالطبع الاستمرار فى ترميم مبانى وسط القاهرة التى تعتبر بحق كنزا من كنوزنا المعمارية.