الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

اللغة العربية في فرنسا.. دواء الماضي وداء الحاضر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فاجأ جاك لانج، رئيس معهد العالم العربى بباريس، وأحد أشهر وزراء الثقافة السابقين في تاريخ فرنسا المعاصر الأوساط الثقافية بكتاب عن اللغة العربية تحت عنوان مثير: «اللغة العربية، كنز فرنسا».
وأسباب عنصر المفاجأة سياسية بامتياز؛ ذلك أن ظروف الحرب على الإرهاب في فرنسا والخلط -غير المتعمد أحيانًا والمتعمد دومًا- بين الإرث الثقافى للحضارة الإسلامية وواقع المسلمين البائس في عالم اليوم جعل من مجرد الحديث عن اللغة العربية تهورًا سياسيًا من قبل سياسي محنك كجاك لانج، فما بالنا والكتاب يحمل عنوانا يجعل من هذه اللغة رافدًا أساسيًا من روافد التنوير الفرنسى بل يجعلها مفتاحًا من مفاتيح مستقبل الثقافة في فرنسا.
والكتاب نزهة عقلية بكل معانى الكلمة، سياحة في دفاتر التاريخ البعيد لفرنسا لتكتشف أن ملوك فرنسا في عصر النهضة مثل فرانسوا الأول كان أول من أنشأ كرسيا للغة العربية في القرن السادس عشر قبل أن يوقع على «الامتيازات» الشهيرة عام ١٥٣٦، بل إن هذا الملك العظيم أنشأ الكوليج رويال الذى اسمه الآن كوليج دى فرانس، وبه قسم خاص باللغة العربية. لكن القفزة الكبرى للغة العربية في فرنسا كانت تلك التى واكبت صدور أول ترجمة لألف ليلة وليلة والتى قام بها أنطوان حالات بين عامى ١٧٠٤ و١٧١٧ والتى ساهمت في فتح شهية المزاج العام لحضارة العرب، وتبع ذلك ترجمة كليلة ودمنة ودخول مفردات حضارة لغة ابن رشد - كما يسميها جاك لانج - في الأدب الفرنسى كحكايات لافونتان وكتابات فولتير ومونتسكيو في زاديج وروح القوانين، فإذا ما دخلت الحملة الفرنسية على الخط ووضع علماء الحملة ومستشرقوها كعميد المستشرقين سيلفستر دى ساسى - رغم أنه تراجع عن المشاركة فيها - وجان جوزيف مارسيل مدير المطبعة العربية للحملة حتى دخلت دراسات العربية لفرنسا منعطفًا خطيرًا تخلصت فيه من «العثمانيات» و«الفارسيات» ودعم ذلك بقوة ظهور طبقة من الكتاب الرومانسيين الذين جعلوا من الشرق عمومًا ومصر خصوصًا دواء لمادية الحضارة الصناعية الغربية، وهربت من واقع مرير نتج عن انهيار حلم الإمبراطورية النابوليونية بعد معركة واترلو عام ١٨١٥. يربط جاك لانج في كتابه بين ازدهار دراسات العربية في فرنسا وظهور ما يعرف باسم «الايجيبتومانيا» أي الولع بالحضارة المصرية.
غير أن القرن العشرين حمل معه إرهاصات عالم عربى جديد يسعى للاستقلال عن الاستعمار الغربى، وكذلك الفكاك من ربق احتلال عثمانى استمر عدة قرون وكانت حرب السويس كما كانت حرب استقلال الجزائر، ثم ظهور جماعات الإسلام السياسى المسلح المعادى للغرب ليصبح بعدها كل ما يمت الثقافة العربية واللغة العربية صداعًا سياسيًا زاد من وتيرته العمليات الإرهابية في عواصم أوروبا. وهنا تتحول لغة ابن رشد من دواء الرومانسيين الفرنسيين إلى داء الواقع السياسى والاجتماعي في مدن فرنسا وضواحيها.
لكن معهد العالم العربى ورئيسه جاك لانج يفصلون بين الإرث الثقافى الثابت والصراع السياسى المتغير حسب الظروف. ويقول لانج أن أنشطة المعهد من مهرجان الشعر العربى إلى دراسات العربية التى تمنح دبلومًا مرموقًا إلى إصدارات مشتركة مع دار نشر سوى هذا عدا الجوائز الأدبية للمعهد في الأدب العربى وغيرها.
أما نحن في مركز دراسات الشرق الأوسط بباريس فقد كان حرص المركز ورئيسه النائب عبدالرحيم علي، على وجود طبعة عربية من إصداراتنا الفرنسية ووجود موقع باللغة العربية ضمن مواقع اللغات الأجنبية التى يعمل بها المركز إشارة إلى أن أبناء اللغة العربية ليسوا أقل حرصًا ليس فقط على استمرارية اللغة بل على تطويرها ووضعها على طريق حداثة هي في أشد الاحتياج إليه اليوم.
يبقى كتاب جاك لانج حدثًا علميًا وثقافيًا يحتم علينا ترجمته إلى اللغة العربية ثم مناقشته في هدوء وروية، فإنه إذا تم العقل نقص الكلام.