الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

مبارك: فصل من التاريخ (1)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رحل مبارك، رحل أحد صناع التاريخ من حياتنا ليبقى بين دفات كتاب الوطن، وستأتى الأجيال من بعدنا لتقرأ عنه وتتدارس ثم تدرك كيف قاد هذا الرجل سلاح الجو في أخطر معركة في تاريخ مصر الحديث فحقق نصرا مبينا، وكيف أدار سفينة الوطن وسط أهوال وعواصف فجنبها الكثير من المخاطر وجعل كل من فيها يشعر بنعمة الأمان معيدا لنا آخر شبر من أرضنا، وحين شعر أن السفينة محاطة بالخطر سلم الدفة عن طيب خاطر للمؤسسة التى تربى فيها، وبقى داخل أرض الوطن محتملا كل ما مر به، وحين وافته المنية صباح الثلاثاء الماضى، وجدت أن الأمانة تحتم على المرء أن يكتب عن هذا الرجل، خاصة أننى أمتلك مادة وثائقية هائلة عنه منذ كتبت المسلسل الإذاعى «سيرة ومسيرة»، والذى تناولت فيه حياته في أول عمل درامى قدم عنه في عهده، ففى مطلع عام 2008 جاءنى المخرج الإذاعى محمد مشعل، متسائلا: إذا ما كانت الإعلامية القديرة إيناس جوهر -رئيس الإذاعة وقتها- قد حدثتنى بشأن كتابة مسلسل عن حياة الرئيس مبارك أم لا، وأثناء وجوده معى هاتفتنى بالفعل، وأخبرتنى بأن وزير الإعلام أنس الفقى في انتظار المعالجة الدرامية في أسرع وقت، وأن الهيئة العامة للاستعلامات ستوفر لى جميع المراجع المطلوبة، وإذا استدعى الأمر مقابلة الرئيس فسوف يقوم الوزير بترتيب ذلك، وفى اليوم التالى جاءتنى مجموعة كبيرة من الكتب العربية والمترجمة ومجموعة أخرى من الصحف والمجلات المصرية والعربية، إلى جانب بعض الاسطوانات التى تضم لقاءات تليفزيونية وخطب ألقاها مبارك في مناسبات مختلفة، وبدأت أبحر في هذا الكم الهائل وبداخلى صيحات المخاوف المكتومة من قبول مثل هذا العمل، فالكاتب حين ينبرى للتاريخ أو يتناول شخصية بعينها عليه أن يعى جيدا أنه أمام مشكلة ضخمة؛ لأن التاريخ قدر الله، نعم، الله تعالى قدر أحداثا وأفعالا في زمانها فحدثت، والكاتب عليه أن يتحرى الصدق في كل كلمة يضعها، وعليه أن يفتش عن الحقيقة مهما كلفه ذلك من عناء وجهد، أما هؤلاء الذين ينعتون الناس بما ليس فيهم ويتركون الأحبار تنسال على الأوراق بكلمات سوداء غير عابئين بما كتبوا فهؤلاء حسابهم عند الله عسير، فهم لم يزوروا التاريخ فحسب، بل خلطوا الحق بالباطل، فتاهت الحقيقة أمام أعين الأجيال القادمة، وخطر الدراما أنها أبقى من الكتاب، فهى تتغلغل في الوجدان وتبقى راسخة في الأذهان، ولا تغير تأثيرها المحاضرات ولا الكتب ولا المقالات، وأبسط دليل على ذلك أن الملامح السمراء للفنان أحمد مظهر تتجلى في أذهاننا دائما كلما تحدثنا عن الناصر صلاح الدين الأيوبى، رغم أن المؤرخين أكدوا بياض بشرته وعلى عينيه الملونتين، وتعالت بداخلى مخاوف فرض أشياء تجافى الحقيقة وتدخلات أمنية ورئاسية، لا سيما بعدما عرفت أن جهات عديدة ستراجع حلقات المسلسل، وقبل أن أقرر الاعتذار اهتديت لفكرة تقديم الجوانب الخفية أو المجهولة في حياة مبارك، والابتعاد عما يعرفه الناس من جوانب سياسية، ولاقت الفكرة قبولا من الجميع حين قلت إننى أريد تقديم مبارك الإنسان، كيف بدأ حياته وكيف تربى في قريته، وما علاقته بأبويه وإخوته، وهنا واجهتنى مشكلة عسيرة، وهى عدم وجود المراجع التى تتحدث عن تلك الأشياء التى أريدها، فالرجل آثر منذ اليوم الأول لتوليه الحكم إبعاد عائلته عن الأضواء، وذلك بعد الانتقادات التى وجهت للسادات حين اقتحم أشقاؤه عالم التجارة والبيزنس، وغاية المتاح عن مبارك هو أن السيد مبارك موظف محكمة شبين الكوم رزق بابنه محمد حسنى في الرابع من مايو عام 1928، وأن العائلة تنتمى إلى سيدى مبارك وهو أحد الصالحين التابعين لسيدى أحمد البدوى، ومقامه حتى الآن في زاوية البحر بمحافظة البحيرة، ولكن آل مبارك نزحوا إلى أماكن متفرقة منها قرية كفر المصيلحة في مركز شبين الكوم، تلك القرية التى أنجبت عبد العزيز باشا فهمى أحد رموز الوفد المصرى، والذى كان له دور كبير في حياة مبارك سنعرفه فيما بعد، وبالمصادفة وجدت خبرا في جريدة الأهرام بتاريخ 22 نوفمبر 1978، عنوانه: «الرئيس السادات يشترك في تشييع جنازة والدة حسنى مبارك»، وفى نفس العدد وجدت نعيا بصفحة الوفيات جاء فيه «المرحومة حرم المرحوم السيد السيد مبارك والدة محمد حسنى مبارك نائب رئيس الجمهورية، وأحمد سامى بألمانيا، وفوزى بشركة طوسون، وعصام الدين بالجامعة العربية، وحرم المهندس السيد عزب إبراهيم مدير زراعة القليوبية، وشقيقة كل من المرحوم محمد أحمد إبراهيم، والمرحوم عبد الرحيم أحمد إبراهيم، وأحمد حلمى إبراهيم، وعمة وخالة كل من اللواء طبيب كمال عبد الكريم.. إلى آخر النعى، والذى تضمن أسماء بقية العائلة، وبدأت أفتش عن هؤلاء فالدراما التى أريدها لن تنسج من واقع الكتب التى قرأتها، والتى استوقفنى فيها فقط، ما كتبه الرئيس الفرنسى الأسبق جاك شيراك عن مبارك؛ حيث يطلب من كل رئيس فرنسى أنهى ولايته أن يكتب مقالا مطولا عن شخصية تعامل معها فاختار شيراك الكتابة عن مبارك، قائلا: «كنت وميتران نختلف كثيرا ونتجادل حول الشخصيات التى نتعامل معها، ولكننا كنا نتفق على مبارك وعلى قدرته في ضبط إيقاع المنطقة العربية، والابتعاد بها عن ساحات الحروب، ونزع فتيل الأزمات»، واستوقفنى أيضا كتاب «سنوات التحدى»، وهو كتاب مترجم وضعه المؤرخ الأمريكى آرثر شليزنجر، بالتعاون مع كاتبة أمريكية تدعى سوزان دراج، وفيه رصد كامل للتحديات التى واجهت مبارك منذ 81 وحتى انتخابات 2005 بعد تعديل المادة 76 وانتخابات رئيس الجمهورية لأول مرة في تاريخ مصر بشكل مباشر، ولأننى قررت هجر الجانب المعلن والبحث عن الصفحات المجهولة في حياته؛ فقد توصلت إلى أن والده السيد السيد مبارك كان يعمل محضرا بمحكمة طنطا، ثم بمحكمة شبين الكوم، وأنه توفى عام 1960، وهى السنة التى أحيل فيها إلى التقاعد بعد ترقيته إلى باشكاتب المحكمة، أما والدته فهى السيدة نعيمة أحمد إبراهيم الدكر، وهى سيدة بسيطة ولكنها ذات شخصية قوية؛ فقد استطاعت تلك المرأة الريفية أن تربى أبناءها الخمسة، وحين توفيت كان واحدا منهم يعمل نائبا للرئيس.. وللحديث بقية.