الأحد 24 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

«الشعليات» و«على دلعونا» و«عالروزانا»..أغنيات عربية وثقت جرائم العثمانلي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عبر ٤ قرون من الاحتلال العثمانى للبلدان العربية، وثقت الشعوب الناطقة بلغة الضاد علاقاتها السلبية بالمحتل التركى في فلكلور غنائي، امتدت نطاقاته الجغرافية من فلسطين والشام إلى العراق، سُجلت فيه عمليات النهب التركى المنظم لخيرات العالم العربي. كما دُوِّنت خلاله تلك اللحظات الحزينة التى فقد فيها العرب فلذات أكبادهم في حروب جرهم إليها العثمانيون قسرًا. وليس أدل على عمق ذلك التراث الغنائى الشعبى من بقاء بعضه حيًّا إلى اليوم في الذاكرة العربية، رغم تطاول الأعوام على تأليفها، ورغم سقوط العثمانيين أنفسهم -وهم محور ذلك التراث- منذ نحو المائة عام. 
كان التجنيد الإجبارى الذى مارسه العثمانيون ضد أبناء العرب، هو الحدث التاريخى الأهم خلال العصر العثمانى المتأخر، الذى امتد من منتصف القرن التاسع عشر، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى العام ١٩١٨. فطوال تلك الفترة، اقتيد آلاف الشباب العربى إلى حروب لم يكن لهم فيها ناقة ولا جمل. ونزفوا فيها الدماء بغزارة دفاعًا عن قضية إسطنبول التى لم تكن يومًا قضيتهم. 
كان السلطان العثمانى محمود الثانى هو من بدأ التجنيد الإجبارى للعرب وغيرهم من شعوب الإمبراطورية العثمانية في عام ١٨٢٦، رغبة منه في تحديث الجيش العثمانى على غرار القوى الأوروبية الكبرى. وبينما نجح الأثرياء الأتراك في تجنيب أبنائهم ويلات نظام التجنيد عبر الرشاوى، فإن الفقراء العرب لم يجدوا مفرًا سوى الالتحاق بالخدمة العسكرية العثمانية التى كانت أشبه بجحيم مقيم يمتد في بعض الأحوال إلى ٢٥ عامًا كاملة، وذلك قبل أن يبدأ تحديد مدد التجنيد في سنوات لاحقة. 

كان مشهد التجنيد العثمانى متكررًا. جنود غلاظ يرطنون التركية يهجمون على القرى. يحصرون شبابها الأصحاء، ثم يربطونهم بالحبال في طابور طويل ناقلين إياهم إلى أقرب ثكنة عسكرية. وبعد انقشاع الغبار الكثيف الذى تسببه كل تلك الجلبة، كانت القرى تبدو خاوية على عروشها، صامتة كالقبور، اللهم إلا من نحيب النساء المكلومات، اللاتى فقدت الواحدة منهن ابنًا أو زوجًا أو أخًا. 
في فلسطين، وثق عربها حوادث التجنيد الإجبارى تلك في أغنيات بكائية عرفت باسم «الشعليات». وهو الاسم المستمد من لفظة «الشعلة»، أى الكلام الذى يشعل القلب نارًا من الحزن والألم. 
واحدة من أغانى «الشعليات» تصور حزن زوجة فلسطينية على فراق زوجها في التجنيد العثماني، داعية إياه من خلالها أن يصطحبها معه، حتى لو إلى ساحات القتال حيث الهلاك المحقق: 
وفى نفس الإطار السابق، تقول أغنية من «الشعليات» على لسان زوجة بائسة أخرى: 
سَافِر وْخُذْنى مَعاك عَ مِينْ تْخَلِّينِــى 
لا أمَّك حَنُونة وَلا أخْتَك تْسَـلِّينِي
وثقت «الشعليات» أيضًا محاولات الشباب الفلسطينى الهرب من التجنيد العثماني. منها تلك الأغنية التى أرخت لقصة شاب يدعى مشعل. فر من الخدمة العسكرية الإلزامية، واختبأ قرب عين ماء هربًا من الأتراك. وعندما عثروا عليه، حاول مشعل رشوة الجندى التركي، على عادة الجنود العثمانيين، إلا أن التركى أخذ الرشوة ثم قبض على الفلسطيني، وساقه إلى التجنيد وسط بكاء وصراخ أهله.
كان اعتداء الأتراك على نساء العرب، موضوعًا آخر من موضوعات الغناء الشعبى حول جرائم العثمانيين. وأغنية «مريم مريمتي» هى النموذج الأكثر وضوحًا على ذلك. وهى تروى قصة فتاة من قرية في لواء الإسكندرون السورى (والمحتل من قبل تركيا منذ عام ١٩٣٩ باسم هاتاي) كانت مخطوبة لشاب من قريتها اسمه جميل، وفى أحد الأيام رآها ضابط عثمانى ورغب في الحصول عليها. فلما علم أهل القرية ذلك، اتفقوا على تزويجها بـ«جميل» سريعًا. فما كان من الضابط التركى إلا أن هجم على القرية مع مجموعة من جنوده، وقام بخطف الفتاة مريم. ولما حاول جميل استعادتها من أيدى الخاطفين، قام الضابط التركى بقتله برصاص مسدسه. 
سجلت «مريم مريمتي» تلك المأساة عبر الكلمات التالية: 
مريم مريمتى وعينى مريما
مريم مريمتى وعينى مريما
والقلب مجروح بده مرهما
يا عينى بده مريما 
مريم ع السطوح
والشعر عم بيلوح
والقلب مجروح بده مرهما
يا عينى بده مريما
قلى الحكيم الخمرة حرام وشربها بيهذيك
قلتلو يا حكيم الله يبليك بهوا سمرا
قلتلو يا حكيم الله يبليك بهوا شقرا
حتى تعرف إنو الخمرة تشفيك
أمان يابا 
مريم يا دلى 
وشعرا بى تلي
وعسكر عثمانلي، خطفوا مرياما
يا يما أخذوا مرياما
إلى جانب التجنيد الإجباري، كانت الأوضاع الاقتصادية الصعبة التى عاشها العرب في ظلال الحكم العثمانى موضوعًا لأغنيات شعبية أخرى. وبدءًا من أواخر القرن الـ١٩، سيشعل تجار الشام على سبيل المثال الإضرابات والاحتجاجات على تلك الأوضاع، وستصبح الحكايات التى تخللت تلك الأزمات مجالًا لإبداعات الفولكلور الغنائى العربي. في إحدى المناسبات، أرسلت الدولة العثمانية باخرة تجارية كبيرة محملة ببضائع كثيرة تدعى «الروزانا» إلى ميناء بيروت، وباع الأتراك البضائع بأسعار بخسة بهدف إفلاس تجار المدينة بفساد بضائعهم في المخازن. وعندما علم تجار حلب بما وقع على أشقائهم في بيروت اشتروا بضائعهم إنقاذًا للمدينة من الإفلاس. وخلد سكان العاصمة اللبنانية الغدر العثمانى وموقف الكرم والنخوة العربية لأهل حلب في أغنية «عالروزانا» الشهيرة التى تقول كلماتها:
كانت الظروف الاقتصادية الصعبة في ظلال الحكم العثماني، إضافة إلى الفتن الطائفية التى غذاها الأتراك، سببًا أيضًا في اختيار العديد من أهل الشام للهجرة بعيدًا عن الوطن. وقد وثقت تلك التغريبة البعيدة في أغنية شعبية شهيرة هى «على دلعونا».
هناك كذلك واقعة الانسحاب التركى أمام الإنجليز في العراق، التى مكنت بريطانيا من احتلال بغداد في العام ١٩١٧. وثق العراقيون حوادث ذلك الانسحاب والذى تركهم «عزّل» أمام آلة عسكرية إنجليزية متفوقة ولا ترحم، في أغنية شهيرة اسمها (جلجل عليه الرمان)، و(الرمان) كناية عن لون الطربوش العثمانى الأحمر.